مخيم مخمور

الخطف ـ الاعتقال التعسفي ـ التعذيبُ بأبشع الأساليب ـ الإعدام، دون تمييزٍ في ارتكاب هذه الممارسات الظالمة بحق صغيرٍ وكبيرٍ أو امرأةٍ ورجل، ليس وحدَه تنظيم داعش الإرهابي من ارتكبها بحق الشعوب التي فرض سيطرته على أراضيها.

قبل عدة عقودٍ من الزمن أنهكت هذه الممارساتُ من قبل سلطات النظام التركي الشعبَ الكردي في مناطق بوتان وآمد وباتمان وغيرها من المدن الكردية، الواقعة جنوبَ شرقي حدود خارطة الدولة التي قامت على أُسُسٍ قوميةٍ لتُسمى اليوم بتركيا.

 

منذ قيام الجمهورية التركية في التاسع والعشرين من أكتوبر تشرين الأول عام 1923، بدأت الظلماتُ تلاحق الكرد الذين يتجاوز عددهم أربعين مليونَ نسمةٍ في هذا الجزء الشمالي من موطنهم التاريخي الأصلي ـ كردستان ـ بطبيعة الحال.

 

في مناطقَ كرديةٍ صِرفة حُرّمَ الحديثُ باللغة الكردية.. مُنعت مظاهر الاحتفال بعيد نوروز القومي، وكل الأمور التي تَمُتُّ إلى الثقافة الكردية، إذ تم حظر الصحافة والإعلام الكردي الحر، وحُجبت عن الوجود كل مدونات الأدب الكردي وتاريخه، ولو شاءت الظروف لفجرّت الأنظمة التركية ـ ربما ـ كما داعش، ضريحَ أدباءٍ أمثال ملاي جزيري في بوتان وأحمدي خاني في دوغبايزيد ليمحى أثرهم من ذاكرة الكرد ويصهرونهم في بوتقة القومية التركية قسراً.

 

لم تنتهِ مأساة الكرد في مناطق شمال كردستان بانتهاء الكمالية بل بدأت القومية تزدادُ شوفينيةً وتعنّتاً مع الأحزاب السياسية التي أفرزتها الكمالية، والتي استلمت زمام السلطة تباعاً في هذه الدولة إلى يومنا هذا.

 

حسين هلالي ـ لاجئ في مخيم مخمور

 

لم يبقَ أمامَ الكثيرين من الكرد خيار إلا الهجرة هرباً من بطش السلطات التركية نحو إقليم كردستان في حال كانوا أُسرَاً تودُّ حماية أبنائها، أو اللجوء إلى الجبال في إقليم كردستان وحمل السلاح للكفاح ضد هذا النظام في حال كانوا شباباً أو شابات.

في تسعينيات القرن الماضي باتت الهجرة القسرية مصيرَ آلاف الأسر الكردية بعد إجبارها من قبل السلطات على العمل لصالح الاستخبارات التركية كجواسيسَ لديها على بني جلدتهم، وبسبب الرفض أُحرقت العديدَ من القرى الكردية واعتقلت المئات من الكرد حتى تحوّلت المدارس إلى معتقلات وأماكنَ يُمارس فيها الضرب والتعذيب بأبشع الأساليب.

 

توجّهت العائلات الكردية نحو الجنوب قاصدةً إقليم كردستان، سيراً على الأقدام، وفقد، خلال المسيرات الطويلة عبر السهول والوديان والجبال، الكثيرُ من الكرد حياتهم بسبب الجوع والعطش في مشهدٍ أشبهَ بمسيرات الموت التي أُجبر عليها الأرمن إبّان الإبادة الجماعية للأرمن على يد السلطات العثمانية في بداية القرن العشرين، أو الاستهداف قنصاً من قبل جنود جيش النظام التركي على الحدود.

 

بدرة كابيلان ـ لاجئة في مخيم مخمور

خلال المسير الطويل والرحلة الشاقّة خيّمت العائلاتُ كثيراً من المرات على الطريق، لكن مع وصولها إلى المكان المنشود بقيت الأبوابُ مؤصدةً أمام استقبالهم، ومنعتهم سلطات حزب الديمقراطي الكردستاني من دخول أراضي الإقليم، فتقطعت بها السُبل في صحاري شمال العراق بين الأفاعي والعقارب وحرارة الصيف الحارق حتى استقروا في سهلٍ بقضاء مخمور الواقع في منطقةٍ مُتنازعٍ عليها بين حكومة إقليم كردستان وبين الحكومة المركزية العراقية.

 

هنا قبل أكثرَ من عقدين من الزمن حاولت العائلات الكردية المُهجرة قسراً من ديارها وأرضها، خلقَ ظروفٍ جديدةٍ للعيش، فنصبوا لأنفسهم الخيام واعتمدوا الرعي والزراعة بغية الاستقرار رفضاً منهم لاحتمال العودة إلى موطنهم في ظل نظامٍ فاشيٍّ قائمٍ لغاية اللحظة.

 

لم يكن تأسيس الحياة من جديد، بالأمر السهل إذ لم يتلقَ هؤلاء الكرد المُهجرون الدعمَ لا من قبل حكومة إقليم كردستان ولا من قبل الحكومة المركزية، بل كثيراً ما نَصبت سلطاتُ الإقليم العراقيلَ أمامهم لمنعهم من الذهاب إلى أربيل بهدف التعليم أو الاستطباب أو شراء المستلزمات أو حتى البحث عن عمل.

 

بلا حولٍ ولا قوةٍ بقيت هذه الأُسر مفترشةً العراء لأشهر، وكثيراً ما حصد الموت أرواح أفرادها سواءً بلسعة عقربٍ أو أفعى، أو رصاصة قناص السلطات المحلية، التي رفضت وجودهم على أرض العراق لما سيسببه الأمر من عرقلةٍ لمصالحهم السياسية مع تركيا.

رغم الصعوبات والتحديات أصبح هذا المخيم بعد أكثرَ من عقدين من الزمن مستقراً للعوائل الكردية المهجرة التي بنت فيه مجتمعاً جديداً يتوافق وينسجم مع ماهيتها.

 

بجهودٍ جماعيةٍ لتمديد خطوط الكهرباء ومواسير الصرف الصحي وإعداد صفوفٍ للدراسة والتعليم وأخرى للرياضة والموسيقى أصبح مخيم مخمور بعد أكثرَ من عقدين من الزمن، موطنَ كثيرٍ من الأطفال الذين كانوا من مواليد هذا المخيم، والذين لا يعرفون لأنفسهم موطناً غيره.

الخيامُ البلاستيكية التي سكنها اللاجئون الكرد الذين قُدّر عددُهم آنذاك باثني عشر ألفَ شخصٍ بتاريخ 1998 تحوّلت اليوم إلى بيوتِ طوبٍ أنشأها قاطنو المخيم بسواعدهم وبتعاونٍ مشترك بينهم.

اليوم يدير المُخيم نفسه ذاتياً وينتخب لنفسه دورياً مجلس إدارةٍ وبلديةٍ ليسيّر الأعمال الخدمية دون أن تتبنى هذه المجالس في نظامها الداخلي العملَ مُقابل الأجر، بل كل الأعمال تتم فيه طواعية.

رغم الإمكانات المتواضعة تطور نظامُ التعليم في المخيم وأصبحت المدارس أكثرَ تقدماً من ذي قبل ويرتادها الجميع من مختلف الأعمار ومن كِلا الجنسين، إذ يدرس الطلاب بلغتهم الأم ويتعرفون ثقافتهم وتاريخهم في محاولةٍ لمعالجة ما ذاقَ آباؤهم وأمهاتهم من محاولاتِ الصهر والإبادة للثقافة الكردية.

 

 

أحمد سيسيو ـ لاجئ في مخيم مخمور

بعد أكثرَ من عشرين عاماً ورغم السلام الذي يسود حياة قاطني المخيم وتنظيمهم الإداري القائم بذاته، إلا أنهم يتعرضون بين الفينة والأخرى لاستفزازات النظام التركي الراغب في إكمال سياسات إبادته بحق الكرد.

مراراً تعرّض مخيم مخمور لاستهدافاتِ طيران النظام التركي ولهجماتِ تنظيم داعش الإرهابي، اللذين خشيا من ظهور أي قوةٍ كرديةٍ قد تحاول يوماً الدفاع عن حقوق شعبها أو تصبح منارةً يَحتذي بها الكرد في جغرافية كردستان المُقسمة بين تركيا وإيران وسوريا والعراق، في اختراقٍ واضحٍ لسيادة أراضي إقليم كردستان ودولة العراق.

 

وعلى الرغم من أن قاطني المخيم هم لاجئون سياسيون فرّوا من ظلم السلطات التركية واستقروا في مخيم مخمور بموافقةٍ من الحكومة العراقية، وباعترافٍ رسميٍ من قبل منظمة الأمم المتحدة عام 2011 ، إلا أن الحكومة العراقية اليوم تتنكر لقراراتها وتسمح للطيران التركي باستهداف أراضيها.

 

مؤخراً دعا مجلس إدارة مخيم مخمور الحكومةَ العراقية والأمم المتحدة إلى التزامهما بقوانين حماية اللاجئين، وأن ترفض بغداد استخدامَ حيوات قاطني المخيم في لعبة أجندةٍ سياسيةٍ لصالح النظام التركي، خاصةً بعد أن حاول الجيش العراقي محاصرةَ المخيم وتنصيب أبراج مراقبةٍ وتحويلَه إلى ما اعتبرته إدارة المخيم سجناً مفتوحاً.

 

رغم كل الجرائم التاريخية والحالية التي يرتكبها النظام التركي إلا أنه يصرُّ على إعلان نفسه نظاماً ديمقراطيا مدعيّاً بذلك سماحه إطلاق محطات تلفزةٍ كرديةٍ هي في حقيقة الأمر لا تُعبر عن الرأي الكردي الحر وكلُّ موادِّها وبرامجها تُمرّر وتُبَثُّ بتحريرٍ من جهاتٍ تابعةٍ للسلطات الاستخباراتية، لتتماشى مع سياسات النظام القائم، الساعي لاستخدام هذه الشماعات في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

 

ولا تسلط تلك المحطات الضوءَ على تكرار النظام التركي ارتكاب أبشع مجازر التاريخ بحق الكرد في مناطق شمال وشرق سوريا، والتي أدت إلى ظهور مخيمات لجوءٍ أخرى كما حال مخيم مخمور، كمخيم واشو كاني ورأس العين لمهجري رأس العين في مدينة الحسكة ومخيمات مُهجري عفرين في ريف حلب الشمالي ومخيم تل السمن لمهجري تل أبيض/كري سيبه بريف الرقة بعد احتلاله وسلبه ممتلكات الكرد المدنيين في عفرين والمناطق السورية الواقعة على الشريط الحدودي مع دولة الاحتلال الواصلِ بين سريه كانية/رأس العين وتل أبيض كري سبي.

في الداخل أيضاً، لا ينفكُّ يحاول هذا النظام  حظر حزب الشعوب الديمقراطي أحدِ أكثرِ الأحزاب الكردية التي تحظى بشعبيةٍ واسعةٍ في تركيا، والتضييق على أعضائه وخطفهم واعتقالهم في سجونه، لدرجةٍ أمست تلك السجون لا تتسع لمرتكبي الجنايات في هذه الدولة، بسبب ازدحامها بالناشطين والصحفيين الكُرد ومدنيين يمارسون حقوقاً مشروعة.

وفي تحديث هذا النظامِ لسياسة حرمان الكرد من الحقوق السياسية وتعبيرهم عن الوجود التاريخي والثقافي لجأ إلى محاولة مُصادرةِ أسطورةٍ مشهورةٍ في الميثولوجيا الكردية هي شاه ميران ونسبها إلى التاريخ التركي، بعرضها كمسلسلٍ دراميٍ تاريخي بإطارٍ تركيٍّ على منصة نتفلكس.