عندما يبحث أردوغان عن صفقة لتقاسم النفوذ في ليبيا مع مصر

لا أعتقد أن زيارة عبدالحميد الدبيبة مصحوبا بـ14 وزيرا إلى تركيا، فاجأت المهتمين بالشأن الليبي، لاسيما وأن الأتراك هم أبرز الفاعلين الميدانيين في غرب ليبيا، سواء من خلال قواتهم الحكومية المتمركزة في قواعد بحرية وجوية وغرف عمليات نشطة، أو من خلال المرتزقة المنتشرين في المعسكرات، وكذلك من خلال شبه سيطرة على الاقتصاد والتجارة، إلى جانب مراكز نفوذ مالية وسياسية وثقافية، فتركيا وإن كان هناك من يعتبرها دولة احتلال يجب أن تجلي مسلحيها من البلاد، فإن هناك من يعتبرها دولة حماية، ويرى أن دورها لا يزال مرغوبا فيه، طالما أن ملامح الدولة الليبية الجديدة لم تتحدد بعد، والانقسام العسكري لا يزال قائما.

أهداف تركيا في ليبيا كثيرة، من بينها ما هو اقتصادي مرتبط بالمنطقة البحرية، وبإعادة الإعمار وتنفيذ المشاريع المتفق عليها في العهد السابق والحصول على تعويضات عن تأجيلها، والسيطرة على السوق الليبية والدخول بقوة إلى صناعة النفط والغاز، وما هو إستراتيجي متصل بدور تركيا وحضورها في الضفة الجنوبية للمتوسط وفي منطقة الساحل والصحراء، والاستفادة من وجودها في ليبيا لخوض معركة المساومات مع القوى الإقليمية والدولية وبخاصة الاتحاد الأوروبي الذي لا تزال علاقاتها به تتراوح بين المد والجزر، وبين العصا والجزرة، فيما يحاول الأوروبيون الحصول على دور أكبر في الدولة الغنية بشمال أفريقيا، ليس فقط للاستفادة من مقدراتها والفرص الاستثمارية المتوفرة لديها، ولكن كذلك لتأمين حدودهم الجنوبية من الهجرة غير الشرعية وجماعات الإرهاب والتهريب والاتجار في البشر. كما أن دولة كفرنسا ترى أن الوجود التركي في ليبيا يستهدف مراكز نفوذها الاقتصادي والثقافي في مستعمراتها السابقة من خلال تجييش قوى الإسلام السياسي والجماعات المتشددة ضدها.

ليست أوروبا وحدها المنزعجة من الدور التركي في ليبيا، الولايات المتحدة كذلك ترفض بقاء القوات التركية على الأراضي الليبية، لكن نظام أردوغان لا يزال مستمرا في انتهاج سياسته السابقة التي مارسها مع دونالد ترامب والناتو، حيث يستغل عداء الغرب لموسكو، للإيحاء بأن هدفه من الوجود في ليبيا هو قطع أصابع الأخطبوط الروسي من جنوب المتوسط، وهذا الأمر بات لعبة ركيكة تبدو أقرب إلى الصبيانيات التي تحاول أن تخفي توافقا مفضوحا بين موسكو وأنقرة يستفيد منه الطرفان، ولكن استفادة الأتراك أكبر، حيث يستعملون وجود “الفاغنر” في المنطقة الشرقية فزاعة لتبرير حضورهم المكثف في العاصمة وغرب البلاد.

الحقيقة أن تركيا تلعب بالورقة الروسية إلى حين، وعينها على قوة إقليمية أخرى تحاول أن تتقاسم معها المصالح في ليبيا.

فخلال الأسابيع الماضية، بدأت في طرق أبواب المصالحة مع القاهرة، وفي العمل على إيجاد تفاهمات مع المصريين حول جملة من القضايا أبرزها الملف الليبي، كان واضحا أن نظام أردوغان مستعد للتخلي عن ورقة جماعات الإسلام السياسي التي أفسدت علاقاته مع محور الاعتدال العربي، مقابل ضمان مصالحه الاقتصادية، ومنها بالأساس إبرام اتفاقية بحرية مع مصر تعطي بلاده مركزا في منتدى غاز المتوسط، ولكن الأهم هو إيجاد تفاهمات حول الموقف من ليبيا، فتركيا لا ترى مانعا من أن تتقاسم النفوذ هناك مع مصر، بل وتعتقد أن الدور المصري مرحب به من قبل الليبيين لأسباب سياسية واجتماعية وثقافية، كما أنه غير مرفوض من قبل القوى الغربية.

لا شك أن القاهرة وأنقرة ساهمتا بدور كبير في التوصل إلى خارطة الطريق التي انبثقت عنها السلطات الليبية الجديدة، ولكن شرط مصر المعلن كان إخراج جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من جارتها الغربية، وهي تقصد بالأساس القوات التركية. وفي أواخر مارس الماضي، قررت القاهرة غلق خط التواصل مع أنقرة بسبب تردد الأتراك في إجلاء قواتهم، لكن نظام أردوغان سارع إلى الاتصال من جديد بالمصريين، وقام بخطوات مهمة في اتجاه إيقاف الحرب الإعلامية التي تقودها قنوات الإخوان من إسطنبول ضد القاهرة، والموقف البارز هو أن تركيا تعهدت لمصر بتحديد موعد لإخراج مسلحيها ومرتزقتها من ليبيا، وآخر تصريحات جاويش أوغلو تشير إلى قرب حصول اجتماعات مباشرة بين مساعدي وزيري الخارجية في البلدين، والمؤشرات تقول إنه قد لا تمر أسابيع قليلة دون أن يكون وفد تركي رفيع المستوى في القاهرة لتطبيع العلاقات.

الأتراك برغماتيون، ويعرفون كيف يحددون أهدافهم، قد ينزلقون، ولكنهم يتلقفون أنفسهم قبل السقوط، وهم يضعون مصالحهم فوق كل اعتبار، وإن كانوا خسروا الرهان على جماعة الإخوان خلال السنوات الماضية وتأكدوا من انحصار موجة الإسلام السياسي، إلا أنهم يدركون جيدا أن الجغرافيا السياسية تخدمهم بشكل كبير، وأن ليبيا يمكن أن تلعب دورا مهما في هذا الاتجاه، وخاصة من حيث استعمالها كورقة ضغط على الأوروبيين، وأداة تقارب مع المصريين.

لا يمكن الحديث عن حل حقيقي في ليبيا من الناحيتين الأمنية والسياسية إلا بالتوافق المصري التركي، وهذا الشرط معلوم لدى الليبيين وخاصة لدى السلطات الجديدة التي فتحت يديها للطرفين، ووضعتهما في مقدمة الأطراف المدعوة للمساهمة في ورشة إعادة الإعمار، وجعلت المشاورات معهما أساسا لكل خطواتها، وكان واضحا خلال الفترة الماضية أن لا الأتراك انتقدوا علاقاتها مع مصر، ولا المصريين انتقدوا علاقاتها مع تركيا.

خلال الأيام القادمة، ينتظر أن يتحول الدبيبة مع وفد حكومي كبير إلى القاهرة لتوقيع اتفاقيات كتلك التي أبرمها مع أنقرة، فالتوازنات يجب أن تكون متجاوبة مع الواقع على الأرض لإنهاء الانقسام الليبي وإعادة توحيد كل مؤسسات الدولة بما في ذلك المؤسسة العسكرية، ولكن المؤكد أن الحسم النهائي سيكون من خلال اجتماع مصري تركي على أعلى مستوى، وهذا ما تسعى إليه أنقرة، ولا تعترض عليه القاهرة، وخاصة في حال قبول الأتراك بالشروط المصرية المتعلقة بعدم التدخل في شؤونها الداخلية ومحاصرة نشاط الإخوان فوق أراضيهم.

بحصول التوافق المصري التركي وإتمام توحيد المؤسسات الليبية، وحصولها على حصتها كاملة من ليبيا، لن تكون تركيا في حاجة إلى وجود مرتزقتها في ليبيا، ولكنها لن تتخلى عن حضورها العسكري النظامي بسهولة، كما لن تتراجع عن المزيد من التغلغل في كل مناحي الحياة ومنها السياسة والأمن والاقتصاد وصولا إلى الإعلام والثقافة والتربية والتعليم، وهي تريد من الجميع أن يتعامل مع هذا الحضور على أنه أمر واقع لحماية مصالحها، وتريد أن تقول للأوروبيين إن رفضهم دخولها اتحادهم لا يمنعها من أن تتوسع وتفرض إرادتها في مناطق نفوذهم التقليدية.

من الصعب أن تبتلع مصر الطعم، ومن الصعب أن يقبل العرب ببقاء تركيا إلى ما لانهاية في ليبيا، ومن الصعب أن يسمح الأوروبيون بذلك، ومن الصعب أن يقبل الليبيون أنفسهم رهن بلادهم بتطلعات الأتراك، ولكن المؤكد أن نظام أردوغان لا يريد مغادرة ليبيا فثقافة الغنيمة متغلغلة في التراث الذي يعتبره نبراسه للمستقبل والأيديولوجيا التي يحتكم إليها في مشروعه السياسي

الكاتب: الحبيب الأسود

المصدر: العرب 

قد يعجبك ايضا