اليد التركية في الجيب القطري

اعتمدت تركيا في السنوات الماضية على دعم مالي قطري في مغامراتها في المنطقة، وكانت اليد التركية لا تخرج من الجيب القطري لكثرة أزمات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الداخلية والخارجية.

الوضع الصعب لقطر أيام المقاطعة العربية جعلها لا تتردد في مد الأتراك بلا حدود وجعل إمكاناتها المالية متوفرة لحكومة حزب العدالة والتنمية. أما اليوم وبعد المصالحة العربية قد تظهر بعض الأصوات القطرية التي تطالب بعدم هدر المال في مشاريع واستثمارات وهمية في تركيا.

وقطر ما بعد المصالحة ليست فقط غير مضطرة لدعم مغامرات أردوغان، بل غير قادرة أيضًا لاعتبارات داخلية وعربية.

إذا أرادت الدوحة مصالحة عربية كاملة ومستدامة، فالمنطق يقتضي وقف مشاركاتها ودعمها لتدخلات الإيرانيين في الشأن العربي من جهة وتدخلات الأتراك من جهة ثانية. ما يعني ضبط وتقليل أي استثمارات ودعم مالي لمشاريع أردوغان خصوصاً.

وداخليا، يبدو أن الاقتصاد القطري يعاني مالياً، مما يجعل الدوحة أكثر حذراً من وضع قدراتها المالية في دولة غير مستقرة كتركيا.

أردوغان القلق من الوضع الاقتصادي، لاسيما بعد أن أصبح اقتصاد تركيا خارج نطاق السيطرة، يحتاج إلى العشرات من المليارات لمعالجة الاقتصاد التركي، وبالتالي ضمان نجاحه في انتخابات 2023 قد لا يجد الجيب القطري مملوءاً بالمال كعادته.

اقتصاد تركيا الذي بني على الاقتراض لا يمكن التوقع أن تتحسن عملته دون دفع القروض التي أصبح أغلبها تحت تصنيف القروض المتعثرة. وإذا طرق باب الدوحة، فأكثر ما قد تقدمه قطر مجرد وعود وتعهدات بالدعم المالي، ولكن دون تنفيذ.

أردوغان العاجز عن إدارة أزمة الليرة التركية لن يحصل على مليارات قطر لهدرها في محاولات عدمية لإنقاذ عملته.

هناك حقائق جديدة رافقت التغيرات الإقليمية، ستجعل الأتراك في ورطة ناجمة عن تراجع مصادر التمويل، ولاسيما بعد أن أهدر وزير المالية السابق بيرات البيرق، صهر الرئيس، حوالي 100 مليار دولار من احتياطيات البنك المركزي التركي على إنقاذ الليرة دون جدوى.

تعلم الدوحة جيداً أن أي مشاركة بالدعم المالي للأتراك لن تكون قادرة على ضمان توظيفها واستثمارها، والجميع يعلم أن الاعتماد على أردوغان لإدارة أي استثمار اقتصادي سيكون في نهاية المطاف في مربع الهدر. كما أن مغامرات أردوغان الخارجية مرتبطة بقدرته على تأمين الدعم المالي، واليوم يختلف عن الأمس.

فبعد أن كانت هذه المغامرات مكان ترحيب من الجانب القطري المعزول عن العالم العربي، أصبحت الدوحة اليوم غير قادرة على تحمل تبعات هذه المغامرات ما قد يضعها في عيون الدول العربية والمجتمع الدولي على أنها بلد لا يحترم التعهدات، وعودة أيّ مقاطعة عربية لن تكون أقل شدة من السابق وربما لن تكون هناك فرص لمصالحات مستقبلية دون مصداقية.

قد ترى الدوحة في أنقرة بأنها جزء من ميزان القوة والتحالفات، إلا أنه ليس من مصلحتها العودة إلى الوراء، كذلك مستوى الثقة المتبادلة بين البلدين انخفض، فتركيا لم تكن مطلعة بصورة تفصيلية عن مدى استعداد قطر للدخول بمصالحة عربية، وقطر لم تكن على اطلاع مسبق على مواقف أردوغان المتذبذبة.

فقطر التي لا ترغب بإغضاب أردوغان غير مستعدة أو قادرة على تحمل أعباء العودة إلى المقاطعة والانعزال.

كذلك أردوغان الذي بدأ بالتضحية بالإخوان المسلمين للتقرب من الدول العربية، ذهب أبعد مما توقعت الدوحة، فمشروع الإخوان المسلمين المدعوم بالمال القطري والحضانة التركية، مهدد باستعداد الجانب التركي لتقديم تنازلات على حساب الإخوان ومن الجيب القطري.

براغماتية أردوغان ستقلق الجانب القطري، الذي لا يزال يستثمر بالإخوان والحركات الإسلامية المنبثقة عنهم أو المتحالفة معهم، فإذا ذهب أردوغان حد التخلي الكلي عن الإخوان، سيجد القطريون أنفسهم في ورطة تبخر كل استثماراتهم في تركيا سواء كانت اقتصادية أو سياسية.

تعاني قطر من مخاطرة عالية وفي الاتجاهين، فبعد أن استثمرت العشرات من المليارات في تركيا، قد يجعل مجمل تخفيض مستوى السخاء استثماراتها في خطر على المدى البعيد. وإذا استمرت بتمويل حكومة أردوغان لن يقل مستوى المخاطرة، بل سيرتفع على المدى القريب لمستوى يرتقي للمقامرة.

المنقذ القطري، كما كان في عيون أردوغان، قد يتحول مع التطورات السياسية في المنطقة إلى خيار عاجز عن تلبية الطلبات التركية التي لا تنقطع.

مقاربات قطر الجديدة للمشهد الإقليمي ستزيد من قلق أردوغان المعزول، فكلما اقتربت قطر من الدول العربية والتزمت بالمصالحة العربية كلما تراجع نفوذ أنقرة في المنطقة وأصبحت عاجزة ليس مالياً فحسب، بل سياسياً وعسكرياً.

وتركيا المتركزة عسكرياً في قطر، لا تملك القدرة لتحويل نفوذها العسكري إلى قاعدة انطلاق إلى المنطقة بعد المصالحة العربية، لقد أصبحت القاعدة العسكرية التركية مجرد نقطة عسكرية معزولة دون مغزى.

كذلك ستشعر قطر بعبء استضافة هذه النقطة العسكرية التي لن تقدم أي خدمات بعد اليوم، ومع الوقت سيكون وجودها موضع شك، إذا استمرت المصالحة العربية في مسارها.

علاقة الود التي جمعت بين الطرفين في فترة سابقة لا تخلو من شكوك وريبة، فكلاهما سار باتجاهات متعاكسة، لا تجمعهما إلا الضرورة. فإذا أردت تركيا أن تكون صديقاً لكل العرب وأن تتصرف كدولة تحترم الجيرة لن تجد ما يجمعها مع قطر. ونفس الخيار أمام قطر إذا حافظت على المصالحة، لن تجد في تركيا ما يغريها.

القاعدة العسكرية التركية ستفقد قيمتها التنفيذية، وستكون مجرد نقطة محيّدة عملياً، ونموذجاً لمشاريع أردوغان الخارجية التي انتهت بالفشل.

ما جمع قطر بتركيا، يكاد ينتهي، والتغيير قادم إذا التزمت الدوحة بتفاهماتها العربية بمصداقية.

الكاتب: غسان إبراهيم

المصدر: العرب

قد يعجبك ايضا