ربما تكون الفيدرالية هي الحل في مشرقنا

ما زال مشرقنا يئن من الفوضى التي ضربت كافة مناحي الحياة فيه منذ ما يقارب القرن من الزمن من الناحية الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والاجتماعية والثقافية وعلى الصعيدين الخارجي والداخلي أيضًا. خارجيًا لم يتحقق ما هو مطلوب مجتمعيًا وشعبيًا بل ما كان في مصلحة من هم في السلطة متربعين على وهم الزعامة التي لم تنقذهم في نهاية الأمر من أن يتحولوا لمجرد لصوص وفاسدين وأدوات عند الآخر ولكن بدرجة رئيس دولة طبعًا. أما على الصعيد الداخلي فحدث ولا حرج عن نتاجات الرؤساء من قتل وتعذيب واختفاء وتهجير وإلهاء الشعوب بالبحث عن لقمة العيش تحت حجة المقاومة والممانعة وتكميم أفواه كل من يعارضهم.

من كِلا التقربين الداخلي والخارجي أفرز زعماءنا ورؤساءنا فيما بعد وما سمي بالربيع العربي أسوء معارضة رأتها البشرية على مرّ تاريخها، ما عدا ما حصل في مرحلة الاحتلال العثماني للمنطقة قرابة أربعة قرون ونيف. وكأن رؤساءنا لم يتخلصوا من الاحتلال العثماني وبقوا على عقليته في تنميل وتنميط المجتمعات والشعوب على حساب بقائها في السلطة، وأفضل أداة كانت ولا زالت يستخدمونها هي الدين والقوموية لفرض سلطتهم على الشعوب، وكأنهم ولاة عثمانيون ولكنهم معاصرون يتكلمون العربية أو التركية أو الفارسية وينادون بقوميتها مع بقاء الجوهر هو نفسه لم يتغير. هذا ما كان في سوريا والعراق وتركيا وايران على وجه التحديد وبعض الدول الأخرى.
ما نعيشه الآن لم يختلف كثيرًا عمّا عاشه أجدادنا في ظِل الفساد العثماني. إذ، لا فرق بينهما إلا باللغة، لكن الفساد هو لم يتغير ولا حتى معنى التبعية والخنوع والذل بقي كما هو. وما حدث بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية من تشكل دول مشتتة ومتناثرة تتصارع مع بعضها البعض على شبر من أرض أو على ثروة هنا أو هناك، وكأننا نعيش القبلية بلبوس الدولة القوموية. الدول التي تشكلت على أساس المركزية الأحادية زادت من صعوبة العيش فيها وراحت تخنق الشعوب والمجتمعات في قوانينها ودساتيرها ومؤسساتها القضائية والتشريعية والتنفيذية، وكل ذلك تحت مسمى الاستقلال والسيادة الوطنية والحدود السياسية المقدسة والعلم المقدس والزعيم المقدس إلى الأبد.

هذا الشكل من إدارة الدولة القوموية جعلت من الشعوب تعيش في مأساة ثقافية وطائفية متقاتلة ومتصارعة مع بعض وفق مبدأ الأفضلية لهذا المكون أو لتلك الطائفة، ولتغرق البلاد من بعدها في حالة من التنافر المجتمعي الذي وصل ذروته في العقد الأخير وما نعيشه من فوضى سقوط الدول القوموية الواحدة تلو الأخرى.

اختصار الدولة في مدينة وكل الدولة بمن فيها بشخص الرئيس والزعيم وكأننا رعاع في قبيلة تحت مسمى الحفاظ على السيادة الوطنية، لم يكن سوى فزاعة تم ترهيبنا بها من أجل قبول الواقع على أنه الحقيقة المطلقة التي لا يمكن مجرد التفكير خارج الصندوق الذي صنعوه لنا باسم الوطن.

الحفاظ على الوطن الذي يعني الانتماء والولاء لكل ذي عقل هو أساس بناء أي مجتمع كان، وهذا لا يمكن النقاش حوله لأنه من المسلمات التي يؤمن بها كل انسان في مشرقنا. ولكن شكل هذه الدولة لا يمكن اعتباره من المقدسات التي لا يمكن الاقتراب منها، لأن شكل الدولة هو المحدد الرئيس لمجموعة من العلاقات والقوانين المحددة في الدستور التي تتوافق مع رغبات المجتمع، وهي ليست ثابتة بل متغيرة وفق ظروف كل دولة وأيضًا حسب الزمان والمكان. يعني ليست المركزية هي من تصون الوطن بكل تأكيد، بل حرية المجتمعات وكرامتها واحساسها بالمواطنة هي خط الدفاع الأول عن كل وطن يتعرض لأي هجمات داخلية كانت أم خارجية.
لهذا ربما بمقدورنا التفكير بنمط آخر لإدارة الدولة بعيدًا عن مصطلح شديد المركزية، فلربما تكون الاتحادية (الفيدرالية) هي شكل الإدارة الأكثر تناسبًا مع واقع منطقتنا المتعددة الأعراق والأجناس من أثنيات وطوائف ومذاهب. فحينما تعبر الشعوب والطوائف عن ذاتها بلغتها وثقافتها بكل تأكيد يكون عنصر قوة للدولة وليس ضعف كما يريد أن يتوهم البعض. توزيع السلطات لا يعني بتاتًا الضعف بقدر ما يعني التقليل من سلطة الدولة على حساب المجتمعات. فكما هو معروف أنه كلما قلت سلطة الدولة زادت مساحة الديمقراطية في أي مكان تنتهج هذا الاسلوب. فالامارات هي دولة اتحادية وتعتبر الآن من أقوى الدول في المنطقة من ناحية التعايش السلمي والتطور المجتمعي إن كان اقتصاديًا أو ثقافيًا أو سياسيًا. وكذلك الاتحاد الأوروبي والكثير من الدول التي لها شكل الحكم الاتحادي في العالم.
لربما تكون الاتحادية هي الحل لما نعانيه الآن من حالة تشتت وفوضى تضرب دول المنطقة التي ما زال البعض منها يصر على المركزية واقصاء الآخر. فسوريا والعراق واليمن وليبيا وحتى فلسطين، لا يمكن لها أن تحل مشاكلها وقضاياها التي أوصلتها لهذه الحالة بنفس عقلية القرن الماضي واسترجاع الدولة لمركزيتها، ربما يكون التفكير بالاتحادية كشكل حكم اداري هو المخرج من هذا المستنقع الذي ما زلنا نتخبط فيه ونفتش عن قشة تنقذنا من الغرق.
بكل تأكيد لا يمكن حل المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية بمنطق حل الدولتين لأن ذلك سيكون بكل تأكيد على حساب الفلسطينيين. من الممكن أن يتم التفكير بالحل الاتحادي (الفيدرالي) أو حتى الكونفدرالي لوضع حل لهذه المأساة المستمرة منذ أكثر من نصف قرن. ونفس الأمر بالنسبة للمشكلة الكردية إن كانت في سوريا أو العراق أو تركيا أو إيران، فلا يمكن التفكير بإقامة دولة كردستان في ظل العقلية المتواجدة الاقصائية التي لا يعترف فيها الكل بالكل. الحل الأمثل هو تحويل شكل إدارة تلك الدول من المركزية الشديدة نحو نظام الحكم الإداري والسياسي الاتحادي. بكل تأكيد على أن توزع الصلاحيات على الأطراف مع بقاء الأمور السيادية بيد المركز من دفاع واقتصاد. طبعًا ومع تواجد عشرات الشعوب والقوميات تعيش على أرضها منذ آلاف السنين من أرمن وآشور وكلدان وتركمان وأمازيغ، يمكن أن تكون الدولة أو الجمهورية الاتحادية هي الجامعة لهذه الشعوب كي تتعايش مع بعضها بدلًا من أن تتقاتل كما يحدث الآن.
طرح لمجرد التفكير خارج الصندوق لما نعانيه من أزمات وكوارث من كافة النواحي، لربما يكون هذا الطرح هو مجرد محاولة النقاش عليه بين أوساط المثقفين، بدلًا من الرجوع للماضي والبحث فيه عن حلول وتطبيقها كما هي. فلا السلفية الدينية ولا السلفية القوموية كانت الحل لقضايا ومشاكل المنطقة والشعوب والمجتمعات منذ تشكل الدول وحتى الآن، بل ينبغي التفكير عن أشكال وأساليب حياة معاصرة تليق بتاريخ المنطقة وشعوبها وتكون انموذج للآخرين بنفس الوقت ويعيش فيها الانسان كإنسان.

الكاتب: محمد أرسلان

المصدر: صدى البلد

قد يعجبك ايضا