بين حماس قطر، وحماس إيران.. أين هي القضية؟

الانتهازية السياسية يمكن أن توفر تبريرا لكل شيء. للشيء وعكسه في آن واحد. فإذا كانت الذريعة هي القضية الفلسطينية، فلسوف يُصبح كل شيء جائزا. فهذه الشماعة ضخمة، ويمكنها أن تتحمل ما لا تتحمله أي شماعة أخرى.

“حماس لصاحبتها قطر” قاطعت سوريا، لأن ولي أمرها قرر المقاطعة، فاختارت القول إن النظام الدكتاتوري الذي يرتكب مجازر وحشية ضد أبناء شعبه لا يمكنه أن ينصر القضية الفلسطينية. مرت سنوات على هذه الفكرة، قبل أن تنتصر “حماس لصاحبتها إيران” لفكرة مضادة تقول إن القضية الفلسطينية في حاجة إلى “العمل المشترك” مع سوريا رغم أن نظامها ظل هو نفسه. وقد لا تعرف ما هو “العمل المشترك” الذي يمكن أن يقدمه هذا النظام للقضية الفلسطينية، ولكنك تستطيع أن تعرف ما هو الغطاء الذي تقدمه حماس الآن لمجازره.

وسوريا لم تنتصر لأراضيها المحتلة هي نفسها، ودفعت نصف شعبها إلى التشرد والهجرة، ونصفه الآخر إلى الفقر والجوع، وصارت نهبا للضربات الإسرائيلية، حتى أصبح “الجولان” المحتل منذ نصف قرن قضية تحرير يائسة، تعجز عنها “سوريا الأسد”، إلى الأبد، كما يعجز عنها الشعب السوري نفسه، إلى ما قد لا يقل عن نصف قرن آخر من الزمان.

ولكن، ما هو “العمل المشترك”؟

إذا أمكن استثناء الهذيان الخطابي والشعارات الغامضة، التي لا تعرف لها قدما ولا رأسا، فلا حماس الإيرانية سوف تقدم جوابا، ولا حماس القطرية.

تبعية حماس لقطر مفهومة، لأنها تموّل كلفة استمرار الانقسام الفلسطيني. وقد تبدو تبعيتها لإيران مفهومة أيضا، لأنها تُهرّب لحماس أسلحة ومتفجرات مما يساعدها على تصنيع “صواريخ” عابرة للمستوطنات. وثمة ما قد يوحي بأن لهاتين التبعيتين شأنا يرتبط بـ”المقاومة” الفلسطينية، بصرف النظر عن جدواها، بعدما أصبحت تعلة لشق الصف الفلسطيني. ولكن ما شأن سوريا بالأمر؟

لا المقاطعة المأخوذة بدوافع تحريضية من جانب قطر كانت ضرورية، ولا العودة عنها لإرضاء إيران ضرورية أيضا. هناك شأن واحد يتعين على الفلسطينيين أن يحرصوا عليه، ويبقوا داخل أسواره، هو قضيتهم وحدها، لا أي شأن من شؤون النزاعات أو الانقسامات أو الخلافات العربية والإقليمية.

تحييد القضية الفلسطينية عن قضايا الخلافات والنزاعات، والبقاء على مسافة واحدة من الجميع، هو الخدمة الوحيدة التي يمكن تقديمها للقضية الفلسطينية في العلاقات مع الدول العربية ودول المنطقة الأخرى.

أحد أهم الواجبات الوطنية، في هذا الإطار، هو النأي بالنفس عن الشؤون الداخلية للدول العربية، واحترام سيادتها وقرارها المستقل. فإذا كان ذلك مما يطلبه الفلسطينيون لأنفسهم، فمن الأولى بهم أن يحترموا حقوق الآخرين فيه.

الجميع يدعم القضية الفلسطينية، ويعتبرها قضية مقدسة، ويدعم الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وسيادة منظمة التحرير الفلسطينية على شؤونها، ويحترم قرارها المستقل، ويوفر لها السند المادي والسياسي الممكن.

هذه مسألة لا جدال فيها أينما ذهبت. ولكنها تصبح قضية تجدر المجادلة بشأنها عندما تحوّل الفصائل الفلسطينية نفسها إلى عصا للمبارزات بين دولة وأخرى، أو للتدخلات في شؤونها الداخلية.

سوريا لعبت دورا مهما في شق الصفوف الفلسطينية على طول الخط. أنشأت منظمات تابعة لها، لكي تستخدمها كغطاء سياسي لسلطة المزاعم التحررية. العراق لم يذهب بعيدا في ذلك. أنشأ منظمة واحدة تتبعه، قبل أن تتفتت ولم يبق منها حتى اليافطة. ولكن تنظيمات اليافطات ما تزال عديدة في سوريا. ولا شيء من هناك قدّمَ خدمةً واضحة للقضية الفلسطينية. منظمات مكاتب، وادعاءات وطنية، ما كان بوسعها أصلا أن تقدم أي خدمة، سوى إثارة ضجيج وتوليد “أمانات عامة” زائدة عن الحاجة.

الآن أصبحت حماس واحدة منها، لتعود إلى سوريا كعودة الابن الضال.

استئجار التنظيمات الفلسطينية، لحساب دول، لم يخدمها ولم يخدم قضيتها الوطنية. ولئن كانت التبعية أقل ضررا عندما تأتي من تنظيمات من قبيل “فتح الانتفاضة” و”القيادة العامة” و”الصاعقة”، فإنها عظيمة الضرر عندما تأتي من فصيل فلسطيني كبير كحركة حماس.

يوفر الاستئجار مصادر تمويل. هذا أمر مفهوم. ولكن هل أفسد القضيةَ الفلسطينية شيءٌ أكثر من تفاوت مصادر التمويل الخارجية؟ منظمة التحرير الفلسطينية لم تفسد، ولم تخرج عن سياقها النضالي، إلا عندما أصبحت “أغنى منظمة تحرير في العالم”، بفضل تلك التمويلات. وزاد الطين بِلة عندما نشأت السلطة الفلسطينية فتحولت من حركة مناضلين (فدائيين في السابق) إلى حركة موظفين، ترتبط أكثر ما ترتبط بالاحتلال الإسرائيلي نفسه. ثم جاء الانقسام الفلسطيني ليتحول الأمر إلى بلاء صرف. ثم جاء الارتباط بأجندات خارجية، وتوظيفات قطرية تارة وإيرانية تارة أخرى وتركية تارة ثالثة، ليتحول البلاء الصرف إلى حرب دمار شامل للقضية الفلسطينية يشنها الفلسطينيون ضد أنفسهم.

لا الخروج من سوريا كان صحيحا. ولا العودة إليها. لأنهما ظلا يتبعان، في الحالتين معا، المؤشر الخطأ.

ربما تمهد قطر لتطبيع علاقاتها مع دمشق. ولكن، أن تدفع بحماس إلى المقدمة، شيء غير مناسب أصلا، لأن شؤون العلاقات البينية العربية لا تحتاج إلى تنظيمات لتمهيد الطرق. عُدْ كما ترى مناسبا، أو ابق على القطيعة إذا ما وجدت لها مبررا. في جميع الأحوال، دع الفلسطينيين في منأى عن الأمر. والفلسطينيون أنفسهم يحسن ألا يتبرعوا بالعمل كوكلاء لسياسات داخلية لدول أخرى.

العودة إلى دمشق من باب دعم المشروع الإيراني في سوريا، كارثة قائمة بذاتها.

لا يجهل قادة حماس ماذا يعني هذا المشروع. يستطيعون أن يروا ماذا فعل بسوريا نفسها، دع عنك ما فعله بالعراق. هناك الملايين من أبناء هذين الشعبين دفعوا من دمائهم ومن عذاباتهم ومن تشردهم ومن فقرهم ومن أموالهم ومن عمرانهم ثمن هذا المشروع.

شيءٌ مخزٍ حقا أن تضع حماس نفسها في موضع يجعلها داعما لهذا المشروع الإجرامي.

من أجل ماذا؟ أمن أجل حفنة صواريخ؟ أم من أجل حفنة مال؟ أم من أجل “عمل مشترك” يعرف الكل أنه أكذب من الكذب نفسه.

شيءٌ مخزٍ حتى ليُكللَ كل ما تزعمه حماس لنفسها بالعار، ويحول وجودها إلى فضيحة.

ما كان كل ذلك ضروريا على الإطلاق. الفصائل الفلسطينية لا يصح لها أن تكون غطاء لأحد، ولا عصا بيد أحد، ولا أداة لخدمة مزاعم أحد، ولا شفاعة لجرائم أحد. هذه ليست قضيتها أصلا.

يمكنك أن تكون بلا بصر، فتتجاهل مقاومة الشعب العراقي للمشروع الطائفي الإيراني. يمكنك أن تكون بلا بصيرة فلا ترى أثر المجازر التي أوقعها نظام دمشق بشعبه حتى تشرد نصف سكان البلاد، وتدمر ثلاثة أرباعه، بينما بقيت تعتبر أن يوم اللقاء بالرئيس الأسد “مجيدا” و”تاريخيا”. ولكن ما رأيك بالشعب الإيراني نفسه؟ ماذا تنتظر منه عندما يتحرر؟

أليس عماك التاريخي هو الفضيحة المجيدة؟ وأين هي القضية الفلسطينية من كل هذا؟

الكاتب:علي الصراف

المصدر: العرب

قد يعجبك ايضا