الأسد يُقسِم على انتهاج الواقعية رأسا على عقب

حرص الرئيس السوري بشار الأسد في خطاب القسم الذي ألقاه بمناسبة إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية للسنوات السبع القادمة، وخلال مراسم أدائه اليمين الدستورية لولاية رئاسية رابعة، على تذكير السوريين بأنه لا يقدّم وعوداً، وأنه لا ينتظر “خطاب قسم” من أجل العمل، فقد كان، على حد قوله، قد بدأ بالعمل، قبل ذلك بكثير، وأن العديد من الخطوات الهامة قد تحقّق خلال الأعوام الماضية، وإن لم تظهر نتائجه لأن مؤسسات الدولة، حسب الأسد، كبيرة جداً على أن يرى المواطنُ العادي آثار تحولاتها وتطوّراتها.

ركّز مجمل أفكار خطابه على الفساد ومكافحته والاقتصاد وتجديده والاستثمار وتوسيعه. ورأساً على عقب، رأى الأسد المشهد الجاري في سوريا ومن حولها، بل إنه تلفّظ بهذه العبارة مراراً ليصف بها خطيئة المجتمع السوري التي اعتبرها قديمة ومتجذرة وليست مستجدة بسبب ما سمّاه، بعظمة لسانه، عنف الدولة، قبل أن يستدرك ويقول إن تلك كانت “حقيقة وهميّة”.

وفي تجليات تعبيراته تلك، لا بأس بدروس في اللغة العربية، والقديمة منها على وجه الخصوص، يعطيها الأسد للحاضرين في القاعة، إذ يطيب له أن يذكّر بأن “البدائه” كلمة مرادفة لما نطلق عليها نحن “بديهيات”، ومن تلك البدائه إسهابه في المطالبة بتحليل أسباب الحرب من جهة، والوقوف من جهة أخرى على أسباب صمود من صمدوا معه، الذي جعله يبدو كمن يدور في مكانه.

فما جدوى رجم المجتمع الدولي والحديث عن أجداد الأوروبيين الذين استعبدوا شعوب الأرض، سوى استجرار نبرة شعبوية أراد لها أن تقنع معارضيه أكثر من مؤيديه. فهو يدرك أن شطراً كبيراً من هؤلاء المعارضين يفكّر بعقلية تقبل مثل هذا المنطق، بل تكرّسه في خطابها التقليدي.

وفي اتساق مع ذلك النهج، اعتبر الأسد أن المجتمع السوري كان يعاني من حالة فقدان للقيم الأخلاقية، وعدم احترام الرموز، الأب بالدرجة الأولى، وكان من الطبيعي أن يصل تفكيره، بعد عقدين من الحكم، ليتحوّل أبوياً بطريركياً، لا يرى في أيّ رأي آخر مغاير لرأيه إلا تمرّداً على تلك الأبوية.

والانتصار الذي يتوهّم أنه حقّقه في بلده، جعله يوسّع من تلك الأبوية لتشمل العرب جميعاً، فهو بواقعيته المقلوبة، ما يزال يعتقد أنه يجسّد رأس حربة في مشروع قومي عربي واسع، ولذلك هاجم العرب والعروبة، واتهمها بالتطبيع المجاني، وأنها تمارس المقاومة من الفنادق وشاشات التلفزيون، وفي الوقت ذاته رفع درع العروبة، معتبراً أنها توحّد الانتماء من دون تذويب المكونات، وأن المجتمع بحاجة إلى عنوان من دون أن يمسّ هذا العنوان المكونات القومية والطائفية التي غازلها وهاجم التنوّع في الوقت ذاته، مشدّداً على أن العروبة ليست قضية رأي أو ذوق، بل إن مصير المنطقة كلها يتوقف على ذلك المصطلح. وكان مشهداً كاريكاتيرياً إضافياً أن يقف مؤيدوه، ويقاطعوا خطابه، ملقين الأشعار والأهازيج ويهاجموا العرب والخليج العربي بعربية ترفع المنصوب وتكسر المجزوم، وكلمات ركيكة تتغنى بتلك “النعالُ” التي أشهروها في وجه العرب.

وبفعل نشأته كابن لحاكم فرد سبق له وأن ملك الأرض والسماء في سوريا، نظر الأسد منذ البداية، لا إلى السوريين وحدهم بل إلى العرب خارج حدود سوريا، على أنهم فرصة استثمارية. من الصعب عليه ألا يراهم كذلك، فقد كانت أولى زياراته إلى الدول العربية زيارات استطلاعية كثيراً ما كان يسأل خلالها رجال الأعمال السوريين المغتربين، عن مراكز النفوذ المالي سواء في مصر أو في الإمارات أو السعودية أو قطر، كي يتمكّن من تحديد هدفه بدقة في نسج العلاقات الاستراتيجية معها. ولم يكن متحفّظاً حين تحدّث عن مليارات الدولارات من الأرصدة السورية المجمّدة في البنوك اللبنانية، لكنه لم يقل لماذا وضعت هذه الأموال خارج سوريا في بلد مجاور بعيدا عن الرقابة؟ وما هي مصادرها؟ ولماذا يطالب بها الآن؟

لا يمكن له أن يفكّر بغير هذه الواقعية المقلوبة، فالمكاسب السياسية والاقتصادية عنده لا تُنجز بالشراكة، وإنما يُستولى عليها، وتورّث، وتُضمّ بالقوة أو بالضغط، وبالطرق غير المعلنة التي قال لمستمعيه إنهم يعرفون لماذا “هي غير معلنة”.

في الوضع السوري والعربي الحالي، لا يبدو الأسد حالة غير مألوفة، وهو يدرك هذا، ومن أجل تعزيز حضوره كنافر بين النوافر، بدا وكأنه يريد فرض رؤيته على الجميع، مع أنه قدّم الدعوة العامة للعودة إلى حضن الوطن تحت شعار “التسامح”.

يبدو الإصلاح أمراً معقداً أمام ناظري الأسد. ذاك الإصلاح الذي استعصى عليه، منذ اللحظات الأولى التي تولّى فيها الحكم، والذي لم يعد هدفاً للتطبيق، إنما أصبح البحث عنه مهمة مزمنة، وبات عصا في نهايتها جزرة، لم يملّ هو من التلويح بها كلما دعت الضرورة، والضرورة لديه قائمة في كل حين، لذلك رأيناه يشكو من الحاجة إلى تحديث “آلاف القوانين السورية” من أجل الوصول إلى الحالة الطبيعية التي بشّر بأنها غير قريبة. فهل يحتاج بلد صغير مثل سوريا حقاً إلى تعديل آلاف القوانين؟

مستهلكو خطاب الأسد الأخير لا يبدون في أوضاع أفضل بكثير من صاحب الخطاب ذاته الذي عرف كيف يقدّم نفسه على أنه ذاك المتمرّد الذي يجب على الجميع التعامل معه كما هو، على حاله، ومن لا يطيب له ذلك فليصنّف نفسه كما شاء، خائناً أو منبطحاً أو عميلاً، إلى آخر قاموس الشتائم التي حفل بها الخطاب، فلماذا سيشعر الأسد بالحاجة إلى تغيير خطابه والخروج عن القالب الذي أفلح سابقاً في إقناع العالم؟ ما الذي يضغط عليه؟ وما الذي يمكن أن يجعله يتغيّر؟

لقد تدرّب طويلاً على رياضة تقول إن التغيير خطر، وإن أيّ تعديل يجري إدخاله على معطيات الراهن التي أثبتت جدارتها في تثبيت حكمه، إنما هو تهديد مباشر له. وتلك السلفية السياسية التي يعتنقها لا يمكن لها العيش عزلاء، بل هي بأمسّ الحاجة إلى أن تكون طوال الوقت مدجّجة بالسلاح والمتاريس التي تحميها من أيّ “عاصفة”.

ولهذا السبب لا غير سيكون عليه أن يتهرّب من أيّ حلّ سياسي للأوضاع في سوريا، وسيطيل أمد الحرب، لأنها إن وضعت أوزارها فستكون تلك السفلية الأسدية منزوعة الأنياب والمخالب، وعندئذ يقع الخطر الذي كان يحاول تأجيله في فترات حكمه السابقة. وتلك، بلا ريب، من “بدائع البدائه” كما سمّاها علي بن ظافر الأزدي الخزرجي مؤرخ دنوّ عصر المماليك، في كتابه الذي حمل العنوان ذاته، وهو في الوقت نفسه، ويا للمفارقة، صاحب كتاب “أخبار الدول المنقطعة”.

الكاتب: إبراهيم الجبين

المصدر: العرب

قد يعجبك ايضا