ماذا عن موقف النخب السورية من التطبيع مع الأسد؟

بوسع النخب السياسية والثقافية السورية الحديث عن موقف مبدئي جذري غير قابل للتفاوض مع مسألة التطبيع مع الأسد. وبوسع من يخالفهم الرأي القول إنهم لم يرفضوا الحل السياسي القائم على التشارك بين النظام والمعارضة في تأسيس هيئة حكم انتقالية وفق قرار مجلس الأمن 2254. ويمكن أن تردّ النخبة السورية بالقول إن هذا لا يشمل العفو عن جرائم الحرب التي فاقت المعقول، والتي توّجت باعتقال مئات الآلاف ومقتل أمثالهم وتهجير الملايين بالهجمات الكيمياوية التي لم تعد بحاجة إلى دليل، بعد أن وثقتها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.

لكن مع ذلك فإن هناك قطارا من التطبيع العربي مع الأسد انطلق مؤخرا، والتحقت به واحدة من أهم دول الجوار؛ الأردن، فما العمل لو واصل ذلك القطار صفيره ودخانه الذي يغشي الأبصار؟
الواقع أن السوريين أنفسهم بدوا غير حاسمين، ليس أغلبهم، لكن كثيرا منهم، بين مؤمن بالحل السياسي، وبين رافض له. فالحل السياسي له استحقاقاته، وإن قبلت بالجلوس حول طاولة مفاوضات فهذا يعني أنك ستقبل بالمزيد في طريق التفاوض قبل الوصول إلى توقيع وثيقة سلام.

ليست المرة الأولى التي يجد فيها أكثر المثقفين السوريين تمسكا بمعارضة نظام الأسد نفسه أمام خيارين، غض النظر، أو النأي بالنفس والبقاء على جذريته حيال جرائم ارتكبت في عهد الأسد الأب والابن. لكن هذه المرّة الجريمة أكبر، والمطالبون باتخاذ الموقف الواضح أعدادهم أكبر من أعداد المعارضين السوريين الذين وجدوا في الماضي أن العيش في المنفى سبيلا أخيرا بدل القبول بالأسد.

هذه المرّة أيضا، الأسد لم يتغيّر. العرب هم الذين قرروا تغيير مقاربتهم. وبدلا من المقاطعة وترك سوريا بين يدي الإيرانيين والروس، لماذا لا يكون للعرب موطئ قدم في الأرض المنهوبة؟ وحدها النخب السورية لم تتغير. لا هي قدّمت حلولا مبتكرة تمثل خروقات وتفكيرا خارج الصندوق يحلحل الاستعصاء السوري، ولا هي تراجعت عن مطالبها، لا هي مضت إلى الأمام في علاقاتها البينية ولا هي حسمت من هو العدو من الصديق في المعادلة السورية المعقدة. بقيت تنتظر الإشارة من الأقوياء متناسية أن هناك من ينتظرها بدوره، وأعني الشعب السوري، الثائر ضد الأسد، والموالي له معا، والذي يشعر أنه بحاجة وربما لمرة نادرة إلى من يتخذ الخطوات الأولى نيابة عنه.

الولايات المتحدة الأميركية لا تزال ترفض مسار التطبيع مع الأسد، وتضع شروطا لموافقتها عليه، في العلن، وفي الكواليس تبارك تلك الخطوات وتدفع بها لأسباب لها علاقة بتصوّرها لخارطة الشرق الأوسط المستقبلية.

ولعل ذلك الجيل من الحكام العرب الذين شهدوا خروج الأسد الأب من ظروف مشابهة بداية ثمانينات القرن العشرين، لم يعد موجودا الآن، ليروي لسلفه كيف أن الأنظمة العربية التي عارضت بطش الأسد بشعبها حينها، ثم ضربت صفحا عن ذلك ووطّدت علاقاتها معه، عادت واستجابت للأسد القوي الخارج من حمامات الدم، أكثر شراسة لا حيال شعبه، بل تجاه الشعوب العربية من حوله، فلم يقصّر بابتزاز كافة الحكومات المحيطة به وتلك التي اعتبرت ركائز الحالة العربية آنذاك، مثل الرياض والقاهرة وبغداد وصولا إلى المغرب العربي.

ولا يسأل أحدٌ كيف سيخرج الأسد الابن غدا من العشرية الدامية؟ بأي حال سيتفاهم مع العرب ودول الإقليم؟ ولا يظنّ أحمقٌ أن تلك الحرب الرهيبة قد حوّلت الأسد إلى قط وادع في الحضن العربي الذي يشتاق إليه.

لم تجد الدول العربية في المعارضة السورية ضالتها، لم تعتد على ذلك أصلا، فهي حكومات دول مستقرة، ألفت التعامل مع حكومات مثلها، أما التفاعل مع حالة فصائلية سياسية وعسكرية ومطالب خارجة عن المألوف العربي، ديمقراطية وتداول للسلطة وحريات وغيرها فهذا لا يركب على تروس الأنظمة العربية ومسنناتها. ولماذا يفعل والغرب ذاته لم يتقبّل الديمقراطية الثورية العربية التي ولدها الربيع العربي ولا تزال في مخاض فوضوي يتنازع الديني والليبرالي وما قبل الدولاتي.

عشر سنوات مرّت، وقد رفع فيها منذ الأول شعار “الثقافة هي الحل” بدلا عن “الدين هو الحل” و”العرق هو الحل” و”القوة هي الحل” دون أن تجد الثقافة التي هي حاجة ماسة، وليست ترفا ولا فذلكة نافلة، أي إدراك لذلك كله، لا من النخب السياسية التي كان يجب أن تعرف أن الثقافة هي بضاعتها الأصلية، ومن دونها فهي تبني على الفراغ ما سيهوي إلى الفراغ بعد قليل. ولا من الشارع الذي تلاعبت به الشعبوية والأهواء رغم سيل المعلومات وثورة الاتصالات ووسائل التواصل وشيوع المعرفة.

تلك النخب بمختلف مشاربها ومذاهبها واتجاهاتها، لا تملك اليوم سوى خيار الوقوف على ضفة النهر وانتظار مرور جثث خصومها وأعدائها مع التيار، وهو خيار يبدو وجيها حين لا يكون لديك غيره، وحين نتخيل شكل التطبيع العربي مع الأسد مستقبلا، ومعنى ذلك حين يترجمه الأسد عمليا على أرض الواقع، فهو في موضع الآن يسمح له بالمطالبة بثمن التطبيع معه، دون أن يدفع شيئا. العرب لا يطلبون الثمن في عهودهم هذه. يدفعون الفاتورة وهم مبتسمون. دون أن يحسبوا ما الذي سيجبرهم الأسد على دفعه لاحقا.

الكاتب: إبراهيم الجبين

المصدر : العرب

 

قد يعجبك ايضا