الخامس والعشرون من تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام يوم اختارته الناشطات النسويات كجرس إندارٍ في وجه المنظومات الدينية الاجتماعية السياسية الأبوية المتواطئة بشكلٍ ممنهج في إقصاء المرأة وتعنيفها وتهميشها.
القصة بدأت مع عملية اغتيال وحشية وقعت عام 1960، لثلاث شقيقات، قررن ألا يصمتن عن الظلم، ويقفن في وجه الديكتاتور، ليغادرن الحياة تاركات رحيق الحرية للآخريات، ثلاث شقيقات هن “باتريسيا” و”ماريا” و”أنطونيا”، كان والدهن رجلَ أعمالٍ ناجحاً، وكن يعشن حياة الطبقة الميسورة المستقرة مع شقيقتهن الرابعة. حيث كانت السيطرة المطلقة على البلاد لديكتاتور دومنيكاني, يدعى رافاييل تروخيلو (1930 – 1961)، من خلال تحالفه السري مع الكنيسة والأرستقراطيين والصحافة، مع إدارته لسلطة عسكرية بوليسية، كانت الشرارة التي حركت الأخوات “ميرابال” لتخلّص من “الدومنيكان”.
وجاء القدر ليلعب دوره، ففي إحدى المناسبات العامة التي تواجدت بها (مينيريفا) إحدى الشقيقات وأكثرهن جمالاً، تواجد الديكتاتور “تروخيلو”، فطلب الرقص معها ، وخلال الرقص حاول مضايقتها والتحرّش بها ، ولكنها صفعته، وغادرت المناسبة مع عائلتها. كان النضال دفيناً داخل الفتاة وأرادات أن تنميه بالجانب المعرفي والقانوني، فرغبت بالالتحاق بكلية الحقوق، لكي تستكمل مسيرتها، ولكي تطبق النضال وتعليمها قامت بتشكيل حركة ضمت مجموعة من المعارضين لنظام “تروخيلو”، وعرفت باسم “حركة الرابع عشر” من يونيو، إلا أن “تروخيلو” سرعان ما عرف بالحركة وأمر باعتقالهن وذويهن ليتم سجنهم والتنكيل بهم.
الشقيقات الثلاث تعرضن لعملية اغتيال وحشية في 25 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1960 في جمهورية الدومنيكان، بأوامر من تروخيلو، الذي ظل على هرم السلطة حتى عام 1961، فارضاً سيطرته المطلقة على البلاد.
وبعد انهيار نظام تروخيلو، كرمت ذكرى الأخوات ميرابال، وقامت أختهن الرابعة المتبقية على قيد الحياة المسماة ديدي بتحويل المنزل الذي ولدن به لمتحف لشقيقاتها الراحلات يضم مقتنياتهن، إضافة للكتب والأفلام الوثائقية والسينمائية التي خلدت ذكراهن.
وتكريماً للأخوات ميرابال اللواتي أصبحن رمزاً للمقاومة والنضال والبسالة في مواجهة العنف ضد النساء، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في السابع عشر من كانون الثاني/ ديسمبر العام 1999تخليد ذكراهن من خلال الاحتفال سنويا باليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة بالتزامن مع يوم اغتيالهن.
وبين اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة في 25 تشرين الثاني/نوفمبر واليوم العالمي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول/ديسمبر، وُلِدَت حملة 16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة، حيث تقام في العديد من البلدان، ندوات وفعاليات تجمع بين الاستنكار والمطالبة، أما بشكل رسمي أو من قبل منظمات المرأة خاصة.
وقد دخل الخطاب الرسمي على الخط في السنوات الأخيرة، جراء ضغوط دولية سياسية واقتصادية. فلا يكاد يخلو بلد، خلال حملة 16 يوما، من خطاب لرئيس دولة أو رئيس وزراء أو مسؤول كبير، لا يندد فيه بالعنف ضد المرأة مستنكرا استهدافها، كونها تشكل نصف المجتمع ولولاها لما كانت للأمة قيمة وتأكيدا على دور المرأة ومكانتها الرفيعة. بل وصار المسؤولون الذين ينظرون إلى المرأة، طوال أيام السنة، باستثناء أيام حملة 16، بشكل دوني، يوجهون منظمات المجتمع المدني لتنفيذ أنشطة وفعاليات خلال فترة حملة الـ 16 يوما يرتكز على إدراك عميق بالدور المتميز لها.
وما نراه اليوم يتكرر منذ سنوات. يُردد المسؤولون خطبهم العام تلو الآخر، في ذات الوقت الذي تشير فيه الإحصائيات إلى تزايد مستوى العنف ضد المرأة أضعافاً.
وقد تزايدت وتيرة العنف ضد المرأة في المنطقة خلال السنوات الأخيرة في ضوء سياقات عدم الاستقرار الأمني والنزاعات في عدد من الدول، ثم جاءت جائحة فايروس كورونا لتعزز من ممارسات العنف الذي تتعرض له في ظل ظروف الحجر الصحي.
وفي ظل الأزمات بصفة عامة، غالبا ما تعاني المرأة بدرجة أكبر من الرجل لكونها الأكثر هشاشة بمعنى أنها الأضعف على سلم الحقوق والأقل امتلاكاً لمصادر القوة الاجتماعية سواء الرمزية أو المادية.
واليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة هو مناسبة سنوية لتذكير العالم بالوضع الكارثيّ ليس للنساء فحسب، بل بالمعضلة التي تواجه الجنس البشري بأكمله، فالعلاقة بين الجنسين ليست علاقة بين عدوّين يحاول الواحد إفناء الآخر (أو أن هذا ما تقوله البداهة الإنسانية) بل علاقة بين جنسين لا يمكن للواحد أن يستمر من دون وجود الآخر.
والأمر الذي لا يخضع للمنطق هو استمرار العنف ضد النساء بشكل يفيض عن الحروب والأنظمة السياسية والفقر وقلة العلم، فمستوى العنف ضد المرأة في الأنظمة الديمقراطية الغنيّة أقلّ من نظيراتها في العالم، لكنّه موجود ولم ينحسر، والبقع السوداء التي يزداد فيها العنف ضد المرأة تشمل كل القارات والنظم السياسية والحضارات والأديان، بما فيها أوروبا وأمريكا وأوقيانوسيا، وهو أمر يشير إلى تجذّر عقلية الإساءة للنساء لدى الرجال من كل الثقافات، وأن المشكلة أكثر صعوبة مما نظن، وأن الطريق للخروج من هذا النفق المظلم في تاريخ البشرية ما زال طويلاً.