أيعلم أحدكم أن الشهرة في جوهرها ليست هدفاً يتم العمل على صناعته، بل هي تحصيل حاصل للعطاء والحب والوداد الذي يزرعه المرء بين الناس على اختلاف مشاربهم؟!
إن كنتم عاجزين عن الجزم، فإليكم قصة “يسرى درويش”..
في العشرين من شهر حزيران يونيو الحالي انتشر خبر عاجل في الصحافة المحلية بشمال وشرق سوريا مفاده انفجار سيارة مدنية في منطقة الجزيرة على الطريق الواصل بين مدينة قامشلي وناحية تربه سبيه/القحطانية إثر تعرضها لقصف مسيرة تابعة للاحتلال التركي..
لدقائق بقيت هوية الضحايا مجهولة لكن سرعان ما أفصحت الإدارة الذاتية لإقليم الجزيرة في شمال وشرق سوريا عن هوية الضحايا من خلال بيان صرحت فيه عن قضاء الرئاسة المشتركة لمجلس مقاطعتها يسرى درويش ونائبة الرئاسة المشتركة للمجلس ليمان شويش ورفيق دربهما فرات توما في الاستهداف الغادر.
هنا اجتاحت مشاعر الصدمة والألم التي امتزجت بالسخط والاستنكار كيان غالبية شعب منطقة الجزيرة حتى انتشرت على صفحات الملفات الشخصية قبل الرسمية في فضاءات السوشيال ميديا صور الضحايا الثلاث إلى جانب صور منفردة تجمع يسرى وصاحب أو صاحبة الملف الشخصي مع إرفاقها بعبارات رثاء لا يكتبها إلا من فقد عزيزاً على قلبه.
السر أن يسرى السيدة البالغة من العمر ثلاثة وخمسين عاماً وقبل أن تكون شخصية عامة تمثل إدارة منطقتها كانت شخصية محبوبة تربعت على عرش قلوب الصغار قبل الكبار.
هي المثل الأعلى ونبراس الأمل لأجيال كثيرة تعلموا وتمدرسوا على يديها في مدينة عامودا شمال شرقي سوريا التي تنحدر منها يسرى درويش معلمة اللغة الفرنسية ومعلمة اللغة الكردية التي ناضلت منذ صغرها على حمايتها من الاندثار فألمت بأبجديتها وقواعدها وساهمت بعد ثورة التاسع عشر من تموز بشمال وشرق سوريا إلى تعزيز دعائم تدريسها.
“نحن كرد نعشق الحرية.. نحن أصحاب إرادة.. نحن كرد نحمي حقوق شعبنا وأرضنا التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا منذ آلاف السنين.. اليوم يحتل النظام التركي أراضينا بدعم من الناتو ويحاربنا نحن الكرد الأحرار نحن الكرد غير المرغوبين لدى نظامه وإنما هؤلاء الذين يظهرون على محطاته التي قد تعرض أغنية وأغنيتين كرديتين من أجل ارتداء عباءة ديمقراطية مزيفة أمام المجتمع الدولي.. أردوغان يخشانا.. فماذا فعلت له هاتان الشهيدتان؟.. سؤال.. ماذا فعلتا.. هما حتى ليستا مقاتلتين مسلحتين ترتديان درعاً واقياً وتحاربانك عسكرياً.. هما إداريتا مقاطعة.. هما مدنيتان لكن أردوغان وخلفيته وداعموه لا يريدون للشخصيات الكردية الحرة أن تعيش لا يريدون للكرد أن يتمكنوا من إدارة أنفسهم وشعبهم أردوغان يخشى من كل هذه النساء واحدة واحدة”
“في حياتها.. كانت يسرى شقيقتي الصغرى.. ثلاثة أخوة أكبر منها واثنان أصغر منها أي كانت الأخت الرابعة في المنزل.. منذ صغرها.. كانت فتاة مجتهدة.. صاحبة موقف وإرادة.. كانت تدافع عن حقها بأي ثمن ففي ذلك الحين كان نوعاً ما خروج البنات طلباً للدراسة أمراً غير مستحب.. لكنها أصرت على العلم.. ومنذ الصف الأول وحتى الثانوية كانت متفوقة وحصلت درجات جيدة خولتها لدراسة اللغة الفرنسية في حلب.. وبالنسبة لحبها لكرديتها وثقافتها فذلك أمر مرتبط بالخصلة الوطنية التي تمتاز بها كل عائلتنا.. وهي فتاة جديرة بالقيادة وقادرة على تحليل الأمور بدقة لذلك خلال الثورة قدمت مجهوداً كبيراً من أجل إحياء اللغة الكردية بعد 2011 وتأسيس المدارس وإدارتها.. قدمت للغة الكردية مجهوداً كبيراً وأثبتت نفسها حتى أصبحت إدارية للمقاطعة”
في عام 2001 حصلت الشابة الكردية يسرى محمد درويش على الإجازة في اللغة الفرنسية وآدابها فدرّست اللغة الفرنسية لأجيال كثيرة حتى أصبحت بدماثة خلقها ونبل عطائها شخصية اجتماعية في الوسط المحيط بها.
حرصت يسرى المعلمة على استحضار روحها المناضلة من أجل حقوق كرديتها وحقوقها كامرأة حرة في المجتمع في كل حين، وربما كانت هذه الخصلة من شخصيتها السبب الأكبر وراء تأثيرها على من حولها.
في عام 2012 وبعد انطلاق ثورة ال19 من تموز في شمال وشرق سوريا سنحت الفرصة أكثر ليسرى لأن تعبر عن نفسها فسارعت إلى ترك التدريس في مدارس الحكومة وسعت إلى إنشاء مدارس ونظام تربوي وتعليمي بلغتها الكردية الأم ضمن كيان الإدارة الذاتية الناشئة.
منذ بداية الثورة شاركت يسرى ـ إلى جانب تشكيل وتهيئة القطاع التعليمي ـ في تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية وتأسيس الكومينات والمجالس بمنطقتها.
في العام المنصرم ومع رصيدها النضالي لسنوات خلال الثورة وعملها كرئيسة مشتركة ناجحة للمجمع التربوي بمدينتها تم انتخاب يسرى لتصبح الرئيسة المشتركة لمجلس مقاطعة قامشلي في الجزيرة.
ابنة شقيقة يسرى ـ المترعرعة على يد خالتها التي أصبحت فيما بعد معلمتها وصديقتها ـ لا تزال تعجر عن استيعاب حدث الفقدان، حتى إنها لا تكاد تربط الجملة في حديثها عن خالتها برديفتها حتى تقاطعها الغصة في حلقها.
“كنت تلميذة لها.. وهي أيضاً خالتي.. بإمكانك القول إنها هي التي ربتني لأني ترعرعت في بيت جدي.. كانت كصديقة لي عندما بدأت أكبر.. علمتني اللغة الكردية عندما كان الجميع يجهل أبجديتها هي علمتنا.. علمتنا أيضاً اللغة الفرنسية.. كنت أتلقى التعليم لديها.. كان يقدم إليها الكثير من الطلاب، وقد شاركت في مجموعات تعليمية كثيرة لديها سواء في اللغة الكردية أو الفرنسية.. كانت تحب تلاميذها جداً كانت تتمتع بروح الفكاهة.. كانت صغيرة مع الصغار وكبيرة مع الكبار كانت صديقة وفية.. الشهداء خالدون.. سندافع ضد الاحتلال التركي.. سندافع سواء بالقلم أو بالسلاح”
تركت يسرى أثراً طيباً أينما حلّت بسبب مواقفها الإنسانية ومواقفها حيال قضية المرأة وآرائها المدافعة عن حقوق الشعوب المضطهدة، فهذه السيدة سليلة أسرة عُرفت بمواقفها الوطنية ومبادئها الأخلاقية في عامودا.
“النظام التركي عبث بالأزمة السورية كلها فأفشل المعارضة وحرف مسارها والآن يحاول إعادة العلاقات مع النظام لكن الفوبيا التي تعيقه الآن والتي يخشاها هي المسألة الكردية والإدارة الذاتية.. ومحتلو كردستان دائماً سعوا إلى تفكيك لحمة المجتمع.. وهذه الإدارة هي التي تسعى إلى حماية المنطقة من هذه المخططات وعمليات الإبادة من خلال توثيق أواصر الإخوة بين مكونات المنطقة هذه الإدارة اليوم هي التي تشكل عائقاً أمام سياسات الاحتلال التركي، لذلك رأينا في هذه المرحلة التي أنهت قوات سوريا الديمقراطية داعش عسكرياً بدأ الاحتلال هجماته على المنطقة متذرعاً بحماية أمنه ولكن رأيتم استهدافه للشهداء الثلاث الذين كانوا يعملون في إدارة المنطقة ويقدمون الخدمات المدنية للمجتمع من أجل الحرص على إحقاق المساواة والعدالة بين المكونات لذلك نناشد العالم لدرء هذه الممارسات فهم لم يكونوا مسلحين بجبهة حرب ونحن نستنكر هذه الممارسات.”
يسرى درويش اليوم مسيرة نضال مستمرة بقدر الأجيال التي نشأت على أيديها وبقدر محبة زرعتها في قلوب الناس بمنطقتها، وإن كان الاحتلال قتل يسرى جسداً فإنه عجز عن قتل سيرة مناضلة القلم التي خطتها يسرى خلال حياتها لا في ذاكرة أهالي الجزيرة أو عامودا وحسب بل في ذاكرة كامل شعب جغرافية شمال وشرق سوريا.