مَن يسمّم الفتيات في أفغانستان وإيران ولماذا؟
هيفيدار خالد
الحدث أكثر من 60 تلميذةً يتعرّضن للتسمم، المكان أفغانستان، الفاعل مجهول… الواقعة أليمة!.. أمرٌ يطرح العديد من التساؤلات التي لا بد من الإجابة عنها، لا سيما وتزامنه مع عشرات حوادث التسمم بمدارس الفتيات في إيران، غير البعيدة عن أفغانستان، والتي تتعرض فيها النساء والفتيات كما أفغانستان لشتى الممارسات والاعتداءات من قبل النظام الحاكم الحالي في كلا البلدين.
منذ سيطرة طالبان على السلطة في البلاد والمرأة الأفغانية تتعرض لشتى أنوع العنف والظلم والقمع. سياساتها بدأت بحذف المرأة من المشهد العام أولاً، ومن ثم الاختفاء بشكل كامل من الفضاء العام، بعد أن منعت خروجها بمفردها من البيت ومن ثم منعها من السفر لوحدها خارج البلاد، لتفرض بعدها قيوداً صارمة وتشريعات تمنعها من حقها في الدارسة أو الالتحاق بالسلك الدراسي، حارمةً بذلك الفتيات الأفغانيات من أبسط حقوقهن في العلم والمعرفة.
قيود طالبان وانتهاكاتها لم تقف عند هذا الحد بل سرعان ما سنت قوانين جديدة ما أنزل الله بها من سلطان، حيث حظرت على النساء التنزه في المنتزهات العامة أو الخروج إلى الحدائق، وليس انتهاءً بمنعهن من التردد إلى الصالات الرياضية أو الجلوس في المطاعم العامة مع الرجال. محاولةً بذلك تدمير الجسور التي من الممكن أن تربط المرأة الأفغانية بمستقبلها، فخيَّم في ظل حكمها العبثي مشهد عام في إقصاء النساء والتضييق عليهن في كل شيء. وسادت حالة من الخوف والرعب بين الأفغان لما ينتظرهم في ظل سيطرة طالبان على مفاتيح الحياة جميعها.
وأكثر ما آلمني وترك في نفسي غصة هو مقتل المناضلة الأفغانية الشهيرة مرسال نبي زاده.. التي تركت أثراً بليغاً في نفس كل من سمع عنها، مرسال كانت برلمانية معروفة دافعت عن حقوق المرأة بجسارة كبيرة، لذا استهدفها الغدر في عقر دارها في العاصمة كابول بعد أن رفضت مغادرة البلاد. نعم كانت أول عملية اغتيال سياسي بعد سيطرة طالبان على البلاد، فعقب إصابتها برصاص في صدرها ويدها فارقت مرسال الحياة إلا أنها لم تفارق وجدان كل من عرفها. نعم كان للواقعة أثر كبير على الرأي العام العالمي وخاصة بعد نشر مقطع صوتي لها حيث تقول ” بلدي ليس مطعماً نتركه حين تسوء الخدمة فيه.. إنه وطني وسأبقى بجانب شعبي”.
وفي سابقةٍ لم نشهد لها مثيلاً منعت طالبان النساء من المشاركة حتى بتجمعات عيد الفطر خلال العام الجاري في مناطق عديدة بالبلاد، في انتهاكٍ صارخ لقوانين حقوق الإنسان والمرأة، لتضرب بذلك كل ما حققته المرأة من مكتسبات بنضالها وتنظيمها الذاتي الخاص خلال سنوات طويلة من العمل الشاق. ذلك فضلاً عن منعها من العمل في المنظمات الإنسانية والأممية لأسباب وحجج واهية.
ربما كل هذه الانتهاكات والممارسات بحق المرأة لم تشفِ غليل طالبان منذ سيطرتها عام 2021 على السلطة في البلاد، لتقوم بأبخس الطرق والأساليب البشعة على استهداف كيان المرأة وحياتها وذلك من خلال تسميم فتيات في ريعان الشباب وهن في مدارسهن بإقليم ساريبول الأفغاني شمال أفغانستان قبل أيام من الآن.
في تفاصيل الحادثة يتطرق الإعلام الموالي للسلطة كعادته لمزاعم الشرطة الأفغانية التي تقول إن مجهولين دخلوا المدرسة وسمموا الفصول دون ذكر معلومات مؤكدة عن الواقعة وعن المادة المستخدمة في التسميم ومن يقف وراءها، وبحكم التجربة في هذا المجال نعلم بأنه في مثل هذه الحوادث عادةً ما يتم حجب التفاصيل وتلفيق الأخبار وتحريف الحقائق.
استهداف الطالبات الفتيَّات جاء للنيل من الإرادة التي تحلّت بها المرأة الأفغانية في وجه سياسات طالبان المجحفة بحقها والجهود التي تبذلها من أجل حصولها على حقها في التعليم وغيره من شؤون الحياة الأخرى التي وقفت طالبان كحجر عثرة بينها وبين كل ما من شأنه تحقيق حياة كريمة تنتشل المرأة الأفغانية مما هي فيه.
المرأة الأفغانية على دراية تامة بأن سلاحها الوحيد للوقوف في وجه كل ما تتعرض له هو العلم والتعلم، هي على يقين بأنه الطريق الوحيد الذي يمكِّنها من توجيه ضربة قاضية للذهنية الذكورية المتمثلة بسياسات طالبان ونهجها المتعصب الذي نشأ وتأسس على القتل والعنف والإرهاب وعدم الاعتراف بالآخر، طالبان عدو المرأة وعدو نضالها ونشاطها السياسي والاجتماعي. لطالما خشيت من نضال المرأة وتضحياتها الجسيمة التي بذلتها وما زالت تقدمها في وجه سياساتها الرجعية التي تعود بالمرأة إلى متاهات الجهل والتخلف.
بالطبع وضع المرأة الإيرانية والكردية في إيران ليس مختلفاً كثيراً عن أوضاع المرأة في أفغانستان، فمنذ انطلاق شرارة ثورة المرأة إثر مقتل الشابة الكردية جينا أميني على يد السلطات الأمنية في البلاد. والمرأة التي تقاوم في وجه آلة القمع والاضطهاد، تواجه انتهاكات كبيرة في مسيرة نضالها من أجل الحرية بدءاً من فرض قيود قاسية تتعلق بعدم ارتداء الفتيات الحجاب إلى التحرك بحرية مطلقة.
يومياً تتعرض الصحفيات والسياسيات والحقوقيات والمعتقلات لشتى أنوع العنف والظلم. شاهدنا عشرات الحوادث من تسميم الطالبات الإيرانيات في المدارس والجامعات في العديد من المدن والمناطق الكردية والإيرانية دون أن يحرك أحد ساكنا. وقد كانت مدينة قم ذات الطابع الديني الشيعي، بؤرة عمليات التسميم الجماعي، ولم يقتصر عليها حيث وقع أيضًا في ثماني مدن أخرى من أنحاء إيران من بينها دن، سقز وسنندج بمحافظة كردستان، ومدينة مراغة في محافظة أذربيجان الشرقية.
ولا يخفى على عاقل أن الهدف الأول والأخير من حوادث التسميم هذه، استهداف ثورة المرأة التي تقودها الشابات الكرديات والإيرانيات والقضاء على الإرادة الصلبة التي يمتلكنها في وجه آلة القمع والاستبداد التي تمارس بحقهن أبشع الطرق والأساليب غير الإنسانية كالإعدام أو الزج بهن في غياهب السجون.
وما خلاصة القول إلا أن الذهنية والعقلية التي تسمم الطالبات في إيران، هي ذاتها التي تسممهن في أفغانستان. الذهنية ذاتها التي تستهدف كيان المرأة وروحها وكل شيء جميل فيها. وما سياساتها تلك ومؤامراتها ومخططاتها القذرة سوى لتوجيه ضربة لنضال وجهود النساء المناضلات المكافحات اللواتي لم يرضخن لعنف السلطة وقمعها بل قاومن بكل ما أوتين من قوة وعزيمة وإصرار لبلوغ هدفهن السامي المتمثل بحياة حرة بعيدة عن الذهنية العنصرية التي ترى في المرأة خطراً على نظامها الذكوري.
فالعبث بحياة النساء أصبح سياسية للنظم الذكورية، وإذا ما أردنا إظهار الحقيقة والكشف عن الفاعلين “المعروفين”، يتطلب من النساء تصعيد نضالهن دون كلل أو ملل في كافة مجالات الحياة من الآن فصاعداً وعدم الاستسلام لطالبان وشرورها. لقد شهدنا صموداً استثنائياً لدى المرأة الأفغانية في السنوات السابقة ضد طالبان. ولا شك أبداً في شجاعة المرأة الأفغانية ورفضها لمحوها من الحياة العامة، ولا بد من الاستمرار على نهج كلٍّ من المرأة الأفغانية والإيرانية على حد سواء بعد أن أثبتا للعالم أجمع مدى جدارتهما في مواجهة السياسات التي تريد النيل من إرادتهما الحرة.