مظلوم عبدي: هندسة القيادة وسط العواصف

الكاتب : د.محمد العرب

في عالم يعج بالتقلبات السياسية والصراعات المعقدة، نادراً ما نجد قائداً يجمع بين القوة العسكرية، الحكمة السياسية، والرؤية الاستراتيجية الشاملة ، خلال مقابلتين مطولتين امتدّت لساعات، أتاحت لي الفرصة لاستكشاف شخصية القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي عن قرب ، الحديث معه لم يكن نقاش عابر حول الأوضاع الأمنية أو السياسة الإقليمية، بل كان نافذة لفهم شخصية قيادية مختلفة ، قادرة على موازنة التعقيدات الميدانية مع المتطلبات السياسية بمهارة تحسد عليها.
مما يلفت النظر عند الجلوس مع مظلوم عبدي هو اتزانه الهادئ. ليس من السهل أن تقود قوة عسكرية وسط بحر متلاطم من القوى الإقليمية والدولية، ومع ذلك، فإن الرجل يدير المعادلة بذكاءٍ حاد وهدوءٍ يعكس فهماً عميقاً للعبة الجيوسياسية. من اللحظة الأولى للحوار، يتبدى أن هذا القائد لا يتعامل مع الأحداث بردود أفعال آنية، بل برؤية بعيدة المدى، تعتمد على قراءة دقيقة للمشهد وتوقع ما يمكن أن يحدث بعد سنوات، وليس فقط خلال الأيام أو الأشهر المقبلة.
قيادة مظلوم عبدي لم تأتِ من فراغ، بل صُنعت في الميدان. كل قرار يتخذه يحمل طابعاً عملياً نابعاً من تجربة طويلة في ساحات القتال، والتعامل مع التحديات المعقدة التي فرضها الصراع السوري. ما يميزه عن كثير من القادة العسكريين هو إدراكه العميق بأن القوة وحدها لا تكفي، وأن البقاء والاستمرار في بيئة شديدة التقلب يتطلب بناء تحالفات متوازنة، سواء مع القوى المحلية أو مع اللاعبين الدوليين. هنا، يظهر ذكاؤه في التعامل مع القوى العظمى، حيث يتعامل مع الجميع ببراغماتية واقعية، دون أن يفقد استقلالية القرار أو يفرّط في جوهر القضية التي يقودها.
المثير في شخصية مظلوم عبدي هو قدرته على الجمع بين صرامة العسكري وحكمة السياسي. فهو لا يُلقي الأوامر بأسلوبٍ سلطوي، بل يناقش ويحلل، ويستمع لمختلف وجهات النظر قبل اتخاذ القرار النهائي. هذا النمط من القيادة أكسبه احتراماً كبيراً داخل صفوف قواته، حيث يُنظر إليه كقائد يُلهم جنوده بدلاً من أن يفرض عليهم رؤيته بالقوة. كما أن هذه المرونة تجعله قادراً على التكيف مع المتغيرات المتسارعة، وهي مهارة حاسمة في بيئة كالشرق الأوسط، حيث تتغير التحالفات والسياسات بشكل غير متوقع.
في حديثه، يظهر مدى اطلاعه الواسع على تفاصيل الأوضاع ليس فقط في سوريا، بل في الإقليم ككل. لديه إدراك استراتيجي واضح بأن أي قرار محلي لا ينفصل عن السياق الإقليمي والدولي، ويبدو واعياً للتوازنات الكبرى التي تحكم المشهد. هذا البعد في التفكير يميزه عن كثير من القادة العسكريين الذين يركزون فقط على التفاصيل الميدانية، دون أن يعيروا اهتماماً للصورة الأكبر. كما أن له رؤية واضحة حول مفهوم الإدارة والحكم، فهو لا ينظر إلى قواته فقط كقوة عسكرية، بل كجزء من مشروعٍ أكبر يهدف إلى تحقيق استقرار مستدام في سوريا والمنطقة.
ما لفتني خلال الحوار هو أسلوبه في طرح الأفكار. لا يتحدث بلغة الشعارات، بل بلغة الأرقام والحقائق والتحليل المنطقي. وحين يسرد أي موقف، فإنه يفعل ذلك بتركيز شديد، مع ترك مساحة للنقاش والنقد، وهو أمر نادر في بيئات القيادة العسكرية التي تعتمد في العادة على الخطاب الأحادي. هذا الأسلوب يعكس ثقة عالية بالنفس، ويؤكد أنه يدير مؤسسته بآلية تشاركية، حيث يُعطى كل فرد الفرصة للتعبير عن رأيه قبل الوصول إلى القرار النهائي.
رغم الظروف القاسية التي مرت بها قواته، إلا أن الرجل يتحدث عن المستقبل بتفاؤل محسوب. لا يبالغ في الوعود، لكنه يؤكد أن العمل المستمر والتخطيط الصحيح يمكن أن يؤديا إلى نتائج إيجابية، حتى في أصعب الظروف. هذه النظرة المتوازنة بين الواقعية والأمل تعكس عمق تجربته، فهو يدرك أن أي مشروع سياسي أو عسكري يحتاج إلى سنوات من البناء والتطوير، ولا يمكن أن يتحقق بين ليلة وضحاها.
فيما يخص العلاقة مع القوى الدولية، فإن مظلوم عبدي يدرك جيداً قواعد اللعبة. هو يعلم أن الدعم الدولي متغير، وأن المصالح هي التي تحكم القرارات الكبرى، لكنه أيضاً يعرف كيف يوازن بين مختلف الأطراف لضمان أكبر قدر من الاستقرار لقواته. خلال الحوار، بدا واضحاً أنه يتعامل مع هذا الملف بحذر، فهو لا يراهن على جهة واحدة، بل يحاول أن يبقي جميع الأبواب مفتوحة، ما يمنحه هامشاً واسعاً للمناورة.
عندما يتحدث عن أفراد قواته، يظهر جانب إنساني عميق في شخصيته. يرى فيهم أكثر من مجرد جنود، بل يعتبرهم جزءاً من نسيج مجتمعي يجب أن يتم الحفاظ عليه. هذه الرؤية جعلته يركز على البعد الأخلاقي في القتال، حيث يحرص على أن تظل قواته منضبطة، وتتجنب الأساليب الوحشية التي طبعت الكثير من الصراعات في المنطقة. هذا الالتزام بالمعايير الأخلاقية أكسب قواته سمعة جيدة، رغم تعقيدات المشهد وتشابك المصالح.
في النهاية، فإن مظلوم عبدي ليس مجرد قائد عسكري، بل هو شخصية قيادية تمتلك رؤية طويلة المدى، قادرة على إدارة التوازنات الدقيقة بين القوة والسياسة، بين التحالفات والمصالح، وبين المبادئ والواقع. في عالم يعج بالقادة الذين يتصرفون بانفعالية أو برؤية ضيقة، يظهر عبدي كاستثناء، حيث يقدم نموذجاً لقيادة هادئة، مدروسة، وقادرة على التأقلم مع أكثر الظروف تعقيداً وهذه الصفات تجعله واحداً من أكثر القادة تأثيراً في سوريا اليوم ، ومن المرجح أن يظل اسمه حاضراً في المعادلة الإقليمية لسنوات طويلة قادمة.