بعد وصوله إلى سنام السلطة في سوريا إثر انقلابٍ عسكريٍّ عام ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعينَ أسماه الحركة التصحيحية، عمد الرئيس السابق حافظ الأسد، على تقويض أي محاولةٍ للإطاحة بسلطته أو المشاركة الحقيقية فيها، فوجد في تحرّك تنظيم الإخوان المسلمين ضده آنذاك، ذريعة للقضاء على أي صوتٍ يمكن أن ينتقد أركان نظامه أو يطالب بإسقاطه.
وغداة محاولة فاشلة لاغتياله أمام قصر الضيافة بدمشق، في السادس والعشرين من حزيران يونيو عام ألفٍ وتسعمئةٍ وثمانين، واتهامه للإخوان بالوقوف وراءها، أوعز الأسد لشقيقه رفعت قائد ما تعرف بسرايا الدفاع حينها، بتصفية مئات المعارضين السياسيين تحت ذريعة انتمائهم لتنظيم الإخوان، والذين كانوا يكابدون الموت في سجن تدمر الصحراوي كل يوم.
صبيحة اليوم التالي الموافق للسابع والعشرين من حزيران يونيو، انطلقت اثنتا عشرة مروحية من مطار المزة العسكري غربي دمشق، وهبطت بعد نحو ساعة في مطار تدمر العسكري، حيث كان على متنها مجموعتان قوامهما مئتا عنصر من سرايا الدفاع، جرى استدعاؤهم بلباس الميدان الكامل من قبل رفعت الأسد، الذي أوكل مهمة قيادتهم لزوج ابنته الرائد معين ناصيف في تنفيذ العملية، والتي عرفت لاحقاً باسم مجزرة سجن تدمر.
كانت الأوامر واضحة، إعدام جميع السجناء الموجودين في تدمر، وإخفاء أي أثرٍ يمكن أن يقود للعثور على جثامينهم، فبدأت المجموعتان الدخول إلى مهاجع السجن وفتح النار أو القنابل اليدوية على المعتقلين، فيما أخرج المئات إلى ساحات السجن الخارجية لتنفيذ الإعدام، بسبب انخفاض مهاجعهم وعتمتها، فأبيد أكثر من ألف معتقلٍ خلال ساعتين تقريباً، ومع أن معظمهم من الإخوان، إلا أنه كان بينهم قرابة مئةٍ وثمانين شخصاً من مسيحيين ودروز وعلويين معارضين لعائلة الأسد، منهم اثنان وعشرون طياراً مقاتلاً، صدر أمر بإعدام أحدهم قبل المجزرة، لأنه قال إنه يحلم بانقلاب.
بعد تنفيذ المجزرة المروعة جرى نقل جثامين الضحايا بواسطة شاحنات ودفنها في حفر أعدت مسبقاً في وادٍ يقع إلى الشرق من مدينة تدمر، دون أي إشارات يمكن الاعتماد عليها لمعرفة هويات الضحايا، ودون الكشف عن أسماء هؤلاء الضحايا، حتى بعد أكثر من أربعة عقود على تنفيذ المجزرة.
ونظراً للسرّيّة الكبيرة والتكتم الشديد الذي أحيطت به المجزرة من قبل السلطات، فإن التقديرات ظلت متفاوتة بشأن أعداد الضحايا، حيث قالت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها، إن وحدات كوماندوز من سرايا الدفاع تحت قيادة رفعت الأسد، قتلت ما يقدر بنحو ألف سجين أعزل غالبيتهم من الإسلاميين، بينما قال ميشال سورا وهو خبير سوري اختطف وقتل في لبنان عام ألف وتسعمئة وخمسة وثمانين في كتابه “الدولة المتوحشة”، إن تحليلاً أجرته الأجهزة الأمنية، كشف أن عدد الضحايا بلغ ألفاً ومئة وإحدى وثمانين ضحية.
بعد أقل من عام على المجزرة الشنيعة أخذت التفاصيل تتكشف تباعاً، حينما ألقت السلطات الأردنية القبض على خلية من ثلاثة عسكريين سوريين، أرسلهم رفعت الأسد لاغتيال رئيس الوزراء الأردني مضر بدران، حيث بث التلفزيون الأردني اعترافات اثنين من أفراد الخلية، تضمنت تفاصيل حول مجزة تدمر والمسؤولين عن تخطيطها وتنفيذها، ثم توالت شهادات مختلفة عن المجزرة، التي أكد بعض الناجين منها أن الدماء دخلت إلى زنازينهم من تحت الأبواب.
لم تكن المجزرة التي اكتُشفت بالصدفة هي الوحيدة في عهد حافظ الأسد بسجن تدمر، الذي وصفته منظمة العفو الدولية بأنه مصمم لإنزال أكبر قدر من المعاناة والإذلال والخوف بالنزلاء، فقد وثقت منظمات حقوقية سبع مجازر جماعية ارتكبت في السجن عام ثمانين وواحد وثمانين واثنين وثمانين، راح ضحيتها قرابة عشرين ألف شخص، حيث أكد بعض الناجين من السجن أن عمليات الإعدام الجماعي كانت تتم مرتين في الأسبوع وتشمل العشرات كل مرة، وهو ما يؤكده وزير الدفاع آنذاك مصطفى طلاس، الذي قال في حديث صحفي، إنه كان يوقّع على نحو مئة وخمسين حكماً بالإعدام أسبوعياً.
تلك الإعدامات عمل الأسد الأب على محاولة شرعنتها بعد عشرة أيام من المجزرة، وذلك بسن قانون يقضي بإعدام كل من يدان بأي علاقة بتنظيم الإخوان المسلمين، وهي التهمة السائدة آنذاك لأي معارض لسلطة الأسد، الذي وصفت منظمات حقوقية محلية ودولية قانونه بأنه ترخيص للقتل، لم يتراجع عنه أو يسمح حتى بمجرد الكشف عن أسماء الضحايا أو مكان دفن جثثهم.
هذه التركة المهولة من المجازر والانتهاكات لم تبقَ على حالها في عهد الرئيس السوري بشار الأسد، وإنما تضاعفت عشرات المرّات، وخاصة في المعتقلات والسجون التي يعد أكثرها رعباً وفظاعة سجن صيدنايا الذي يوصف بالمسلخ البشري، حيث وثقت منظمات حقوقية منها العفو الدولية، إقدام قوات الحكومة السورية على إعدام أكثر من ثلاثة عشر ألف معتقل في السجن بين عامي ألفين وأحد عشر وألفين وخمسة عشر فقط.
العفو الدولية قالت إن سجن صيدنايا هو المكان الذي تذبح الحكومة السورية شعبها فيه، حيث يتم اقتياد عشرين إلى خمسين شخصاً من زنازينهم كل أسبوع من أجل شنقهم، وقُتِلَ آخرون في صيدنايا بعد أن تعرضوا للتعذيب بشكل مستمر ومنهجي، وحُرموا من الطعام والماء والأدوية والرعاية الطبية، وتحمّل جثث القتلى في شاحنات نقل وتدفن في مقابرَ جماعية، معتبرة أنه من غير المعقول أن تطبّق هذه الممارسات على نطاق واسع وبشكل منهجي من دون الحصول على إذن من أعلى المستويات في الحكومة السورية.
تدمر، الحسكة، صيدنايا كغيرها من السجون الأخرى التابعة للحكومة السورية، مسارح لمجازر شنيعة خلفت آلاف الضحايا الذين ناهضوا سطوة مركزية الدولة الاستبدادية تحت سلطة الرجل الواحد والحزب الواحد، مجازر مرّت دون محاسبة أو أي بارقة أمل بإنصاف أسر الضحايا وأقاربهم، الذين ما زالوا يتجرّعون عذابات الفقد، وغصّة إفلات المجرمين من العقاب.