ما هي العدالة الانتقالية (ملف خاص)
كثيراً ما يتصدّر مَطلَبُ العدالة الانتقالية المشهدَ في الدول التي تشهد انتقالاً لنظام الحكم السياسي، مثل الانتقال من نظامٍ ديكتاتوري إلى ديمقراطي؛ لما له من أهمية في ترسيخ دعائم السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي وبناء الثقة بالمؤسسات الحكومية، واستعادة سيادة القانون، وضمان كرامة الضحايا، بعد معالجة كافة انتهاكات حقوق الإنسان، المرتكبة إبّان عهد النظام السابق، خاصةً وأن عملية الانتقال بحد ذاتها غالباً ما تُصبَغ بالتعدي على الحقوق تحت وطأة السلاح، إلى أن تتحقق.
وتُعرف العدالة الانتقالية بمجموعة التدابير القضائية وغير القضائية، التي تقوم بتطبيقها الدولُ لمعالجة ما ورثته من انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان، خلال حقبةٍ سياسيةٍ معينة. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجانَ تقصي الحقائق، وبرامجَ جبر الضرر، وأشكالًا متنوّعة من إصلاح المؤسسات. والتي تساعد في النهاية على التأسيس لمرحلةٍ سياسية جديدة، يسود فيها القانون والاستقرار السياسي.
مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، ملفاتٌ جنائية كبيرة تتكشف يوماً بعد يوم، لتضافَ إلى سجل الجرائم الكبرى التي ارتكبها هذ النظام قبل الأزمة السورية في 2011، بحق الأفراد والجماعات، ولعل أبرزها مجزرةَ حماة في الثمانينات ومشروعَ الحزام العربي، الذي سلب الكرد جزءاً كبيرة من ممتلكاتهم، وعملية تجريد آلاف الكرد من حق المواطنة وسحب الجنسية منهم، وقمع حقوقهم الثقافية، ناهيك عن إقصاء القانون المدني للديانة الإيزيدية، بما يحمل تعبيراً بعدم الاعتراف بوجود اتباعها في سوريا.
تطول قائمة جرائم وانتهاكات النظام السابق قبل الأزمة، لتستجد بعدها ملفاتٌ جنائيةٌ أكبر، تطاله وتطال جهاتٍ خارجية تدخلت في الأزمة التي استمرت لحوالي أربع عشرة سنة، فمع خروج بعض المناطق من تحت سيطرة النظام السابق، ولجوئه للتعاون مع روسيا وإيران عسكرياً، واحتكارهما لمقدرات البلاد، ومحاولة إيران تشييع بعض المناطق، واحتلال تركيا في الشمال ودعمها لفصائلَ إرهابيةٍ تحتكم لأمرها وتنفذ جرائمَ كبيرةً بحق السكان الأصليين، وضحايا المناطق التي خضعت لانتهاكات تنظيم داعش الإرهابي لأعوام، يجعل من تطبيق العدالة الانتقالية رغم كل تعقيدات المشهد، أمراً ضرورياً في سوريا لإعادة بناء الدولة على أُسُسِ السيادة والمواطنة والعدالة.
العدالة الانتقالية استحقاقٌ شعبي يصعُبُ تأطيرها في نموذجٍ وقالبٍ نظريٍّ صالحٍ للتطبيق من أجل جميع الحالات، فمسار العدالة يتأثر بالضرورة لمتطلبات وخصوصية كل حالة. وفي سوريا يتفق مراقبون لهذا الشأن على أن آليات تطبيق العدالة الانتقالية، ينبغي أن تنبثق على شكل توصياتٍ من مؤتمرٍ وطني جامعٍ وشامل في سوريا.
ويذهب حقوقيون إلى أن خطة العمل ينبغي أن تكون كالتالي:
البدء بطروحات ونقاشات تحضيرية حول العدالة الانتقالية تترافق بتطبيق تدابيرَ احترازية، ينجم عنها كنتيجةٍ أساسية التوافقُ على الخطوط العريضة للمسار، لتتم مناقشتها في مؤتمرٍ وطني سوري جامع، وتنبثق عنه هيئةٌ وطنية مستقلة، من أجل أن تطلق عمليةً تشاركيةً واسعة، لإنتاج مقاربةٍ محددة بالحالة السورية ومسوّدة قانون، تخضعان للنقاش ليتم الاتفاق على إصدارها كقانونٍ رسمي تُبنى وفقاً له المؤسساتُ المعنية بالتطبيق.
أما بالحديث عن أبرز التحديات أمام هذا الإجراء في سوريا اليوم، فهو تحوّل هيئة تحرير الشام إلى حكومةٍ انتقالية، وتعيينها للجنةٍ تحضيرية للمؤتمر، غالبيتها عناصرُ في الهيئة التي تندرج لغاية اللحظة على قوائم الإرهاب الدولية، مما يزرع التخوف من الإقصاء التمثيلي في المؤتمر الوطني، وبالتالي في الهيئة المسؤولةِ عن مسار العدالة الانتقالية المنبثقة عن المؤتمر، الأمر الذي قد تُحجم من أجله الكثيرُ من الدول الإقليمية والدولية عن دعم مسار العدالة الانتقالية التي ستحتاج لمبالغَ طائلة.
وعلى تنوع ملفات الأزمة السورية، فمن المؤكد أن مسار العدالة الانتقالية سيحتاج لتنوع المحاكمات، ما بين محاكمَ دوليةٍ ومحاكمَ وطنيةٍ تمارس الولاية القضائية العالمية، لكن الإشكالية أن سوريا ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، ما يعوّق اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية، لممارسة الولاية القضائية عليها ومحاكمة الأفراد المسؤولين عن الجرائم مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب في البلاد.
لكن اللجوء إلى محاكماتٍ محليّةٍ باستخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية، حقق نجاحاً في هذا السياق، عندما تمت محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب المسؤولان في النظام السوري السابق بألمانيا، بتهمة ارتكابهما جرائمَ ضدّ الإنسانية، وفي الحالة السورية أيضاً ربما تحتاج العدالة الانتقالية للمحاكم الخاصة، التي تجمع بين القانون الدولي والمحلي.
وبعيداً عن آلية سير المسائل القضائية فإن جملةَ تحدياتٍ تحمل طوابع مختلفة، تؤثر بدورها على تحقيق هذا المطلب، من بينها:
غياب الثقة بين الأطراف السورية، خصوصًا مع الجرائم التي ارتُكبت على أساسٍ طائفي أو سياسي، والخشية من تحول العدالة الانتقالية إلى أداةِ انتقامٍ سياسي، وهذا الأمر سيعقد حتماً إجراء مصالحة وطنية، وفي الحالة السورية فإن العدالة الانتقالية بالتأكيد ستحتاج لكليهما، العدالة العقابية والعدالة التصالحية، لتشافي المجتمع السوري.
وعلى الرغم من حداثة مفهوم العدالة الانتقالية، الذي يرجع تطبيقه لما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن نماذجَ دوليةً كثيرة، نفذت إجراءاتِ عدالةٍ انتقالية، وتعتبر البداية الحقيقة مع محاكمات حقوق الإنسان في اليونان في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وبعدها في المتابعات للحكم العسكري في الأرجنتين وتشيلي، من خلال لجنتي تقصي الحقائق في الأرجنتين عام ألفٍ وتسعمئةٍ وثلاثةٍ وثمانين، وتشيلي ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعين.
وعلى صعيد أوروبا الشرقية، تجلت العدالة الانتقالية مع فتح ملفات الأمن الداخلي، كما حدث في ألمانيا بعد سقوط حائط برلين، وكذلك عمليات التطهير التي حدثت في تشيكوسلوفاكيا في عام ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعةٍ وثمانين.
في جنوب أفريقيا نُفّذت آلياتُ العدالة الانتقالية، من خلال لجنة الحقيقة والمصالحة الشهيرة في عام ألفٍ وتسعمئةٍ وخمسةٍ وتسعين، التي تشكّلت للتعامل مع قضايا الانتهاكات الجسيمة، التي تعرض لها السكان من ذوي الأصول الإفريقية، خلال فترة التمييز العنصري.
وفي المغرب أخذت العدالة الانتقالية طابع الإنصاف والمصالحة، حين قام الملك الحسن الثاني بإجراءات التحوّل وتسليم الحكم إلى المعارضة، في عام ألفٍ وتسعمئةٍ وخمسمة وتسعين، وتولت هيئةٌ خاصةٌ بعملية تقصي الحقائق، حيث اختتمت أعمالها في عام ألفين وخمسة، بدفع تعويضاتٍ للضحايا، والعمل على إصلاح وتأهيل عددٍ غير قليلٍ من المؤسسات.