ماذا يريد النظام السوري من دير الزور؟
أظهرت الأحداث الأخيرة في منطقة دير الزور الشرقية حاجة إلزامية لحوار استراتيجي بين اللاعبين الداخليين في المنطقة، وهنا نقصد أهالي المنطقة والمؤسسات العسكرية والخدمية هناك، بعيداً عن اللاعبين الخارجيين وتأثيراتهم وعلى رأسهم إيران والنظام السوري الذي لم يستطع خلال فترة حكمه الطويلة لسوريا من تأسيس علاقات استراتيجية مع شعوب المنطقة وخاصة شعوب المنطقتين الشمالية والشمالية الشرقية، والذاكرة هنا أفضل خدمة للعقل كما يُقال. فكم مرّة استغل النظام الثغرات العشائرية والعرقية لتمكين أجهزته الأمنية الطائفية وضرب العشائر ببعضهم دون إدراك مسؤوليته في الحفاظ على حياة الأهالي وممتلكاتهم حينما هاجمت التنظيمات الإرهابية المنطقة، حيث كان جنود النظام وعلى رأسهم ضباطه أول الهاربين من هناك وآخر المهمومين حيال المجازر التي ارتكبتها تلك التنظيمات وكان أشهرها مجازر داعش بحقّ الشعيطات والعكيدات وغيرهم.
وهنا، لا ينبغي الاستغراب حينما تُوجّه أصابع الاتهام حيال الأحداث في دير الزور الشرقي إلى النظام السوري الذي لطالما عمل طيلة نصف قرن من حكمه على تطوير ممارساته الشوفينية في اختلاق الصراعات بين مكوّنات سورية وبناء دكتاتوريته عليها، حيث لم يتوانَ في الأحداث الأخيرة عن المجاهرة بمحاولاته تلك من خلال الإعلان عن تشكيلات عسكرية إجرامية تفتخر بوقوفها خلف تلك الأحداث، لينتقل النظام بذلك من مرحلة الفتن القولية إلى الفعلية، وهو ما يعكس خشيته من الاستقرار في المنطقة وتطوير الإدارات الذاتية هناك التي تمكنت خلال الفترة السابقة من سحب البساط من تحته، حيث اعتمد -النظام- بشكل أساسي على تعميق الصراعات بدل إخمادها، وتهييج الناس بأسباب ثانوية لإبعادهم عن الهدف الأساسي وهو إسقاطه والتغيير الجذري في بنيته وهيكليته.
وإذا كانت الفتنة إحدى أدوات النظام الأساسية للتوغل في المنطقة، فإن الدوافع الإيرانية لتمتين تلك المحاولات فاضحة إلى درجة كبيرة أيضاً. فإيران التي لا تمتلك ترف الأدوات والأساليب في التعامل مع شعوب المنطقة التي باتت على دراية تامّة بخططها ونواياها وكذلك مخططات الأطراف الأخرى (تركيا – النظام السوري) مدعوة إلى حدّ كبير للتماهي مع خطط النظام في اللجوء إلى كافة الأساليب ومن بينها المجازر والفتن لتعزيز مكانة طموحاتها في مدّ الهلال الشيعي والالتفاف على العقوبات الدولية من خلال إعادة تفعيل خط أنابيب البترول من كركوك وصولاً إلى الساحل السوري ومن ثم إلى أوروبا.
لذا، قد يبدو الصراع الدولي المحموم على المنطقة الشرقية وما ترافقه من محاولات تعزيز النفوذ للأطراف الخارجية وعلى رأسها إيران والنظام عبر دسّ العملاء وإحداث الفتن والمشاكل والاغتيالات، وكذلك القضاء على حالة الاستقرار النسبية معللاً ظاهرياً بالصراع على المخزون النفطي في المنطقة، لكن، في الواقع وعلى الخرائط السياسية الإقليمية والدولية تبدو الأمور مختلفة كلياً. فالولايات المتحدة الأمريكية التي دخلت المنطقة عبر بوابة محاربة داعش بدأت تنجح نسبياً في تقطيع الطريق البري الإيراني الممتد من طهران – بغداد – دمشق – بيروت، حيث تشكّل المنطقة الشرقية في سوريا صلة الوصل الأساسية. كما تمكنت أمريكا عبر تمركزها في تلك المنطقة إضافة إلى الصحراء العراقية المحاذية للحدود السورية من لجم مخططات إيران للالتفاف على العقوبات الدولية من خلال محاولة إعادة تفعيل خطّ أنابيب نقل النفط الممتد من كركوك والمار عبر دير الزور وصولاً إلى الساحل السوري، حيث كانت إيران قد خصصت نحو 8 مليارات دولار لإعادة تفعيله بعد عزمها بربطه بخط آخر من إيران إلى كركوك قبل ثلاثة أشهر فقط من ظهور داعش عام 2014، حيث أعادت التذكير بالمخطط مرة أخرى في أكتوبر عام 2019 بعد قرار ترامب الانسحاب من شمال وشمال شرق سوريا، حيث وجدت إيران الفرصة مرة أخرى للتثبيت في المنطقة ونسف كل السياسات الأمريكية لحصارها.
لذا، من المستبعد أن تكون كمية النفط القليلة المكتشفة في المنطقة مقارنة مع النفط العراقي أو الخليجي هي التي تجذب اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية التي تتجاوز مصاريفها في المنطقة أضعاف ما يمكن الاستفادة من البترول المستخرج إن تمّت الصفقات. وكذلك إيران التي تعاني من أزمة تموضع في سوريا والعراق ولبنان واليمن، تحاول تجاوزها عبر الإصرار على التمدد العسكري والسياسي في دول المنطقة، وهو ما بات أصعب من أي وقت مضى بعد التمركز الأمريكي في شرق سوريا والصحراء العراقية.
وما بين المشروعين الإيراني والأمريكي، تبرز حاجة أهالي المنطقة إلى مشروعهم الخاص ومساعدة أنفسهم والالتفاف حول المصلحة الاستراتيجية في التعايش السلمي والحفاظ على مؤسساتهم العسكرية والخدمية الذاتية. وكذلك إعادة تدوير محاولات الفتنة بخلق نتائج عكسية تزيد من وعي الناس بمخططات اللاعبين الخارجيين وفي مقدمتهم النظام السوري الذي يسعى بكل طاقته لإعادة تفعيل دور التنظيمات الإرهابية المشابهة لداعش لدفع الناس مرة أخرى للاستنجاد به أو خلق البلبلة لنقل معركة إيران ضد الأمريكيين إلى الداخل السوري وخاصة في الشرق والشمال الشرقي على حساب دماء السوريين.
بالمثل، يجب على قوات سوريا الديمقراطية صاحبة التضحيات الكبيرة لتخليص الناس هناك من الإرهاب أن تتعامل بحزم أكبر ودون تردد مع محاولات خلق الفتنة تلك، وسدّ الثغرات في الأجهزة الأمنية والمدنية لخلق واقع أفضل وإحداث التغييرات المطلوبة في بنية المجالس الإدارية ومساعدة الناس على كيفية حماية أنفسهم وخلق التوازن في إدارة المنطقة بين العشائر.
إلى حين تحقيق ذلك، سيكون الرهان على العقلاء والبدء بالحوار الاستراتيجي برعاية “قسد” بمشاركة جميع المكونات محاولة متقدمة لتخفيف آثار لعنة الجغرافية والحروب القادمة المتوقعة عليها بين القوى الدولية. سوى ذلك، ستكون المنطقة وأهلها أمام كارثة ودفع أثمان لا حاجة لهم بها. على الناس هناك أن يدركوا أن النظام الذي قتل أكثر من مليون سوري واعتقل مثلهم وشرّد أكثر من ثمانية ملايين شخص وما يزال، لن تكون نيّاته حسنة وبعيدة عن تقديم ضمانة حماية طويلة الأمد لمنطقة قال عنها يوماً ما بأنها “لا تصلح سوى لدفن المخلفات البشرية”، بل ستكون البداية الثانية للتغيير الديمغرافي في المنطقة خدمة لمشاريع إيران وغيرها.
على الناس أن يفهموا أن حالة عدم الاستقرار التي تحاول الجهات الخارجية دفعهم إليها لن تساعد أي مؤسسة أو منظمة محلية أو دولية على تقديم حتى أبسط الخدمات، وستشكّل بالضرورة نقطة الاستغلال الرئيسية لدماء أبنائهم وتضحياتهم.
الكاتب:فرهاد شامي
المصدر:اليوم