عاشوراء الحسين و”المعمدان والرسول”
لذاكرة الطفل حدّة تزداد مع تقدّم العمر. ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي طلب فيه والدي من أمي التغمية على عيني حتى لا أرى أمرا اعترض الطريق العام. بدافع الفضول الذي ما زال يتملّكني وشكّل المعمودية الأولى الاختيارية في حياتي كصحافي، تمكّنت من الإفلات من أنامل أمي وحررت عينيّ من راحتيها الحانيتين وقفزت بعيدا عن متناول ذراعيها – حيث لم يكن أيامنا أحزمة أمان في السيارة وقد كانت صناعة أميركية -قفزت بعيدا إلى نافذة المقعد الخلفي وراء أبي المشغول بقيادة “شيفورليه- الأمبالا” تلك “الغزالة” السوداء.
يا لهول ما رأيت، كانت عصابة من الأشرار تنهال بالضرب المبرّح على فتى أعزل بدا من زيه غريبا. لن أذكر اسم الدولة فهي حبيبة إلى قلبي كونها مسقط رأسي وقادتها وشعبها من أنبل العرب وأكرمهم. ما حاول والداي حماية نظري منه هو مشهد عنيف اتضح نزولا عند إلحاحي بأنه فعل إجرامي إرهابي قام به نفر لا يمثلون سوى أنفسهم باضطهاد أقلية كانت تحيي مناسبة “دينية-تاريخية” انقسم فيها المسلمون وما زالوا بين صائم فرحا بخلاص الرب لبني إسرائيل على يدي النبي موسى كليم الله من عبودية وطغيان “فرعون”، وبين حزين مكلوم يقوم فيه آخرون ويصومون أسى على ذبح الحسين حفيد الرسول وابن فاطمة (البضعة) وعليّ (الفادي وأول المصدقين الذين ما سجدت هامته يوما لغير الله).
شكلت لي تلك الصدمة ثأرا لا ينسى مع العنف والتطرف والإرهاب الذي أرفضه بالمطلق، وتعاطفا مع الشيعة وجميع أقليات العالم الدينية والمذهبية والإثنية بلا استثناء. أحب الناس إلى قلبي وأقربهم إليّ كانوا وما زالوا من الأقليات خاصة المضطهدة.
لكني وقد نشأت في بيت ومدارس تعلي ثقافة الحياة والفرح والتفاؤل والإيجابية، آمنت بثبات يحسبه غير المحب وهماً أو عناداً، آمنت بأولوية السلام على ما سواه من أهداف وقيم. في هذه الأيام يهتفون بمسيرات في وطني الثاني أميركا بأن “لا سلام دون عدالة”. شعار أعارضه بشدة وأعارض أي قيمة وإن كانت الحرية أيضا أمام السلام الذي يعلو وإن كان من الصعب أن يسود في غياب ربّ السلام، جلت قدرته سبحانه عظيما بسلامه وخيره وعدله.
الحياة والحرية هما الاستثناءان الوحيدان في نظري. واهب الحياة وحده القادر أن يسلبنا حريتنا وأهمها حرية الاختيار. لكنه قضى في شريعته وهي واحدة لا تتبدل لكنها تتجلى..، قضى بحرية الإنسان في الاختيار بين الحق والباطل، الخير والشر، حرية مضمونة-مشروطة في آن واحد. فالطريق واحدة إلى السلامة والسلام بالمعنين المحدودين والمطلقين.
ويشاء العليّ القدير ضابط الأزمنة كلها والأمور جميعها، أن تتلاقى اليوم مناسبة أخرى مع إخوتي المسيحيين. فالتاسع والعشرون من آب هو يوم استشهاد يوحنا المعمدان وهو أيضا ذبح وقطع رأسه كما الحسين.
لرأس الحسين الشريفة ولرأس القديس يوحنا المعمدان منارات نور وهدى عبر نهر المعمودية الأردن وعبر الأردن إلى دمشق حيث تحوّل شاؤول إلى بولص بتدخل مباشر من السيد المسيح كما ورد في الكتاب المقدس. شاؤول تملكه التعصب والتطرف إلى حد ملاحقة المسيحيين الأوائل لاضطهادهم خارج القدس وعموم الأراضي المقدسة في فلسطين التاريخية، إلا أن المحبة قادرة على صنع المعجزات فلم تحوّل هذه المرة الماء إلى خمر كما في عرس الجليل في قانا، وإنما حوّلت رأس شاؤول الحامية إلى رأس بولص الحانية التي هي أيضا قطعت دفاعا عن إيمانها.
نحيي ذكرى هؤلاء الشهداء ونحن على أبواب عشرية ثالثة ستكون والله أعلم حافلة بما قد يبشّر بميلاد عهد جديد يبدأ بالسلام ولا ينتهي به. نعم السلام أولا وآخرا إن أردنا أن نكف أيدي قاطعي الرؤوس ومحرضيهم وأخطرهم الغانية سالومي.. يرى بعض العارفين أن غانية هذا الزمان هي وسائل الإعلام الجديد الأكثر فتكا ونهشا في أعراض الناس وأوطانهم وأرواحهم. فالحذر، كل الحذر من إفشاء الكراهية والتحريض بين الناس بصرف النظر عن المبرر ومهما كانت الغاية. ليس صحيحا ما قال ميكيافيلي بأن “الغاية تبرر الوسيلة”. فالغاية لا تغني عن الوسيلة إن كان الاختيار بين الله والشيطان والحق والباطل والخير والشر. وهذا سلام للناس كافة بمن فيهم قاطعي الأرزاق والأعناق في مشرقنا المظلوم المكلوم..
الكاتب: بشار جرار
المصدر: اليوم