أعمالُ نهبٍ واحتجاجات وتخريب في فرنسا، هذا هو العنوان العريض للمشهد في معظم شوارع المدن الفرنسية الكبرى، وعلى رأسها العاصمة باريس ومرسيليا وليون وليل.
إنه جنوحُ المهاجرين وأبنائهم إلى العنف، لمواجهة ما يسمّوه عنفَ قوى الأمن التمييزي الممارس عليهم منذ سنوات، دون محاسبة جدية من مؤسسات الدولة.
الاحتجاجاتُ اندلعت عقب مقتل شاب من أصول جزائرية يبلغ من العمر 17 عاماً، من مسافة قريبة على يد شرطي، أثناء فحص مروري في ضاحية نانتير غرب العاصمة باريس، ورغم أن سجل الفتى كان خالياً من السوابق، إلا أنه كان معروفاً في المحاكم الفرنسية، بسبب خلافاته مع الشرطة ورفضه الامتثال لقوانينهم مرات عدة، وفق شهادة أحد المقربين له.
وبعد دوامة العنف من قبل المحتجين، والعنف المضاد من رجال الأمن، تزداد الضغوط على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من قبل المجتمع الدولي، وحتى حلفاء باريس كبرلين وواشنطن ولندن دعوها لكبح جماح الأزمة التي تعصف بإحدى ركائز الاتحاد الأوروبي، ذاك الكيان الاقتصادي والسياسي الذي يجمع تحت رايته قرابة ثلاثين دولة.
طول فترة الأزمة دفع 70% من الفرنسيين لطلب دخول الجيش إلى مناطق الاضطرابات لحل الأزمة وفق قناة “سي نيوز”، بينما يعتقد 80% منهم أن الضواحي التي تبلغ 1500 حي في عموم فرنسا، وتضم قرابة 5 ملايين شخص تعد مناطق خطرة وفق منظورهم.
إنها الضواحي، المتهم الأول في وسائل الإعلام الفرنسية ولدى رجال الدولة الفرنسيين الذين تناسوا أن ما تشهده فرنسا الآن هو نتاج قرارات أسلافهم، وعلى رأسها قرار إسكان المهاجرين الذين أتوا لإعمار البلاد عقب الحرب العالمية الثانية، في مناطق حول المدن الكبرى، حتى باتت أشبه بحزام يطوقها من كل جانب، حزام يكثر فيه الفقر، والبطالة، وترتفع فيه نسبة الجريمة.
تصرف السلطات الفرنسية المتعاقبة مع الضواحي يكون على أساس تمييزي وعنصري، وفق ما يراه سكانها، الذين يشتكون من زيادة خطاب الكراهية ضدهم، لا سيما مع زيادة نفوذ أحزاب اليمين في الشارع ووسائل الإعلام، كما يتذمر سكان ضواحي المدن الفرنسية الكبرى من برامج الاندماج المفروضة من قبل الحكومة، ويصفونها بأنها تلغي تاريخهم وثقافتهم، وتتعدى على خصوصيتهم الدينية، بينما تؤكد السلطات أن ما يصفه الأهالي بتجاوزات رجال الأمن ما هو إلا تصرفات فردية، وليس سياسة ممنهجة للدولة.
فرنسا اليوم متهمة في لائكيتها، اللائكية التي تدعو باريس جميع دول العالم للاقتداء بها واعتمادها في دساتيرها، وتتغنى في كل حين بتطبيقها منذ عام 1905، بعدما أقر البرلمان الفرنسي آنذاك فصل الكنيسة عن الدولة، أو بالأحرى فصل الدين عن الدولة.
الهدوء يعود تدريجياً إلى المدن الفرنسية الكبرى، خاصة مع معالجة السلطات الفرنسية لأسباب الاحتجاجات بسرعة أكبر عما كان يحدث في السابق، إلا أن أزمة ضواحي المدن الفرنسية ستبقى خامدة كالنار تحت الرماد، في انتظار حدث ما يعكّر صفو الهدوء المؤقت الذي ينعم به المجتمع الفرنسي، سيبقى الحال هكذا إلى أن تضع باريس حلولاً جذرية تزيل بها الأزمة عن بكرة أبيها، أو عليها تحمل اتهامات منظمات حقوق الإنسان بممارستها “العنصرية المقوننة”.