روهلات عفرين : العاصفة التي لا تنحني

الكاتب: د.محمد العرب

في قلب الحسكة، حيث تمتزج رائحة البارود بوهج الشمس الحارقة، جلستُ في غرفةٍ بسيطة أمام امرأة تحمل في ملامحها صلابة الجبال وهدوء العواصف قبل أن تضرب ، لم تكن هذه مجرد مقابلة صحفية، بل كانت مواجهة مع التاريخ، مع الحاضر، مع المستقبل الذي تحمله في عينيها كأنه وعدٌ لا رجعة فيه…!

روهلات عفرين لم تكن تتحدث عن الحرب فقط، بل عن الفكرة التي تتجاوز الرصاص والخنادق، عن معركة وجود لا يمكن أن تنتهي إلا بانتصار الإرادة. لم أرَ في كلماتها لحظة تردد، لم أسمع في صوتها نغمة شك، بل كان حديثها ناراً هادئة تحرق الخوف وتضيء الطريق.

هناك أسماء تمر في التاريخ مرور العابرين، وأسماء تُحفر في الذاكرة كالنقوش على الصخر، وأخرى تتحول إلى رموز تتجاوز الزمان والمكان، تُصبح أسطورة حيّة يُرددها المقهورون، ويتهامس بها الثائرون، وتخشاها الأنظمة التي تتغذى على الخوف والدم. روهلات عفرين ليست مجرد مقاتلة، ولا مجرد قيادية، ولا حتى مجرد رمز نسوي في عالمٍ اعتاد على تهميش المرأة، بل هي زلزالٌ في قلب الخرائط، إعصارٌ في وجه الاستبداد، وشرارة تشتعل كلما حاول العالم أن يطفئها.

في ساحات القتال، حيث يتردد صدى الطلقات كدقات ساعة الموت، لم تكن روهلات مجرد محاربة ترفع السلاح دفاعاً عن أرضها، بل كانت روحاً تسير بين الجنود، تتحرك بينهم كأنها جزءٌ من الأسطورة التي تُكتب تحت سماءٍ مشبعة برائحة البارود. كانت تعرف أن كل طلقة تطلقها تحمل معها رسالة، أن كل خطوة تخطوها على هذه الأرض الملتهبة هي جزء من معركة لم تكن فقط عسكرية، بل كانت معركة وجود، معركة هوية، معركة قرار نهائي بأن هذا العالم لن يكون كما كان قبل أن تقف النساء في وجه الطغاة.

لم تأتِ روهلات من فراغ، ولم تنبت على هامش الأحداث. هي امتداد لخط مقاومة بدأ منذ عقود، خطٌ امتلأ بالدموع والدم، ولكنه أيضاً كان خطاً من نارٍ ونور، صنعته نساء لم يقبلن أن يكنّ مجرد متفرجات على التاريخ، بل قررن أن يصنعنه بأيديهن، بأجسادهن، بأرواحٍ تحولت إلى سيوف في مواجهة الظلم. كانت روهلات تعرف جيداً أن معركتها ليست مجرد قتال ضد محتل، ولا مجرد دفاع عن أرض، بل كانت حرباً مفتوحة ضد كل المفاهيم التي تحاول أن تبقي النساء في الظل، ضد كل القوى التي ترى في المرأة مجرد تابع، ضد كل من اعتقد أن الثورة يمكن أن تكون حكراً على الرجال.

عندما التقيتها، لم أجد أمامي امرأة تتحدث عن الحرب كمجرد مهمة، بل محاربة ترى في المعركة قدراً لا مفر منه، في عينيها بريق يشبه شظايا النيران التي تندلع في الليالي المعتمة. لا تتحدث بصوت مرتفع، لكن كلماتها تحمل ثقل السنوات التي عاشتها بين القتال والتخطيط والقيادة. لا تميل إلى العاطفة الزائدة، لكنك تستطيع أن تشعر أن تحت ذلك الوجه الصلب، هناك قلب لم يعرف الراحة يوماً ، قلبٌ امتلأ بالوداع والفقد لكنه ظل ينبض بإصرار.

روهلات ليست فقط امرأة تحمل السلاح، بل هي إستراتيجية متحركة، تقرأ المعارك كما يقرأ الشاعر قصيدته، تعرف كيف تتحرك، أين تصيب، ومتى تنسحب لتضرب أقوى. إنها ليست قائدة تتحدث من خلف المكاتب، بل امرأة صنعت مجدها وسط الدخان والدم، بين الأنقاض وخنادق القتال، في المدن التي تحولت إلى ساحات مقاومة، وفي القرى التي تعلمت فيها النساء كيف يحملن البندقية إلى جانب حملهن للمسؤولية.

المثير في شخصية روهلات عفرين ليس فقط صلابتها، بل قدرتها على الجمع بين النار والعقل. هي تعلم أن الحروب لا تُحسم بالسلاح وحده، بل بالعقول التي تخطط، وبالقلوب التي تؤمن بأن التراجع ليس خياراً ، في عالم مليء بالقيادات المترددة والوجوه التي لا ترى أبعد من حدود يومها، تظهر روهلات كمثال نادر، كقائدة لا تسأل عن الخطوة القادمة فحسب، بل تفكر في السنوات التي تليها، تبني مشروعاً لا يعتمد فقط على القوة العسكرية، بل على وعي يجعل من النساء قوة لا يمكن كسرها.

خلال حديثنا، لم يكن لديها وقت للشكوى أو الندم. كانت تتحدث كما لو أن التاريخ بأسره يقف خلفها، كأنها تُكمل رسالة أرسلتها مئات النساء قبلها. عندما سألتها عن الخوف، ابتسمت وكأنها تسمع السؤال لأول مرة، وكأن الفكرة ذاتها غريبة عنها. قالت لي: “الخوف؟ إن كنت خائفاً ، فقد سلمت سلاحك دون أن تدري.

روهلات ليست مجرد قصة نضال فردي، بل هي انعكاس لقضية أكبر، لحكاية تمتد عبر العصور، لحلم لم ولن ينطفئ مهما حاول العالم أن يدفنه تحت ركام الحروب والمؤامرات. هي ليست فقط قائدة في وحدات حماية المرأة، بل هي مثال حيّ على أن المرأة يمكن أن تكون في الخطوط الأمامية، ليس فقط في القتال، بل في صنع القرار، في إعادة تشكيل المجتمع، في كسر كل الصور النمطية التي أراد التاريخ أن يفرضها.

رأيتها تتحدث عن المستقبل، ولم يكن في صوتها خوف ولا ارتباك. رغم كل ما مرّت به، رغم كل الأعداء الذين يتربصون بها، كانت تعرف أن التاريخ في النهاية يكتب بأيدي الذين لا يخافون، الذين يرفضون الاستسلام حتى لو كان الثمن حياتهم. كان في كلامها يقين نادر، ذلك النوع من اليقين الذي لا ينبع من تفاؤل ساذج، بل من معرفة عميقة بأن من يختار هذا الطريق عليه أن يمضي فيه حتى النهاية، دون أن يلتفت إلى الخلف، دون أن يسمح للشكوك بأن تتسلل إلى قلبه.

بعد اللقاء، كنت أفكر: ما الذي يجعل شخصاً يتحول إلى أسطورة وهو لا يزال على قيد الحياة؟ كيف تصبح امرأة واحدة رمزاً لأمة، لصراع، لفكرة لن تموت؟ الجواب لم يكن في عدد المعارك التي خاضتها، ولا في عدد الخطابات التي ألقتها، بل كان في شيء أعمق، شيء لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يُشعر به، يُدركه كل من يقترب منها. روهلات ليست فقط مقاتلة، وليست فقط قائدة، إنها روح مقاومة لن تنطفئ، صوت يصرخ في وجه التاريخ، ووجه لن يُنسى مهما حاول البعض محوه.

أيقونة؟ ربما. ولكنها ليست أيقونة صنعها الإعلام، ولا أسطورة اختلقتها الدعاية، بل هي لهيبٌ خرج من عمق المعاناة، نارٌ لم يستطع أحد أن يطفئها، وستبقى مشتعلة ما دام هناك من يؤمن أن الحرية لا تمنح، بل تنتزع.