رحماك يا رب “الخبز السياحي”

هناك نوعان من الخبز في سوريا الأسد. الأول “مدعوم” والثاني “سياحي”. المدعوم شحيح أو غير موجود. فالمخابز التي لا تتلقى ما يكفي من “المازوت” لكي توقد أفرانها له، ما يضطر بعضها إلى أن يبيع “الخبز السياحي” بأسعار مضاعفة.

سوريا بلد لا سياحة فيه. والتشرد هو العمل “السياحي” الوحيد الذي دفع أكثر من نصف عدد السكان إلى أن “يسوحوا” بين البلدان بحثا عن مأوى، وعن خبز عادي كأيّ خبز آخر، لا “مدعوم” ولا “سياحي”. ولكن لا تعرف ما هي اللوثة العقلية التي تدفع إلى إضفاء اعتقاد سياحي على الخبز.

قد يتعلق الأمر باستشراف مستقبل يعود فيه السواح ليزوروا بلدا عمّت فيه الخرائب، حتى ليعتقدوا أنها من آثار الماضي، فيجدون خبزا مخصصا لهم. ولكن حتى هذا الاحتمال بعيد جدا. ما يجعل التسمية محاولة سريالية تصدر عن خرائب الانطباعات التي لا يسوح فيها إلا من أثقل كاهلهم العوز.

نصف أفران العاصمة السورية وضواحيها أغلقت أبوابها. النصف الآخر يعمل لنحو 5 ساعات في اليوم حسب ما يتوفر من طحين أو مازوت. والكهرباء تنقطع لما يزيد عن 20 ساعة في اليوم. ولا يتوفر بنزين حتى لوسائل المواصلات العامة. وتغلق المؤسسات الحكومية أبوابها، لتوفر على نفسها طاقة لا لزوم لها. ويغيب الموظفون عن دوائرهم، كما يتخلف الطلاب عن جامعاتهم ومدارسهم لأنهم لا يتحملون تكلفة النقل أو لا يجدون سبيلا إليه أصلا.

وسيا وإيران لم تبخلا على “سوريا الأسد” بالميليشيات والصواريخ. ولا نعرف لماذا تبخلان عليها بالطحين والمازوت. لقد قررتا أن تبقيا على نظامه، ولكنهما لا تساعدانه على البقاء في الضروريات الأخرى لاستدامة أي نظام عادي، فما بالك إذا أصبح نظاما لا يجد لشعبه حتى “الخبز السياحي”.

الأعذار التي يقدمها نظام “الصمود والممانعة” لحلفائه كثيرة. فهم محاصرون بدورهم من الإمبريالية ذاتها، ولديهم “معاناتهم” الخاصة. فالريال الإيراني تجاوز الحضيض حتى أصبح الدولار الواحد يساوي 360 ريالا. أما الروبل الذي يتباهى الرئيس بوتين بتحوله إلى “أقوى عملة في العالم” فقد صار أعز من أن يساعد به حليفه الوفي.

ولئن كانت القواعد الروسية في اللاذقية لا تعاني من النقص في الخبز أو الوقود، ولا تواجه حصارا، ولا حتى على شحنات الحبوب، إلا أنها لا تعطي صاحبها الوفي ما يكفي شعبه خبزا.

لقد أضحت سوريا بلدا مفلسا. خزائن مصرفه المركزي فارغة، حتى بعد أن أصبحت “جمهورية مخدرات” تبيع الهلوسة، وهي التي ظلت تبيع الشعارات لنحو نصف قرن. وهي انتقلت من هذه إلى تلك، لأنها كانت هلوسة من الأساس. أما الشحنات، فلم تعد تصل إلى وجهاتها بالسرعة اللازمة مثلما كانت من قبل. على أيّ شكل جاءت. هلوسة شعارات أو هلوسة كبتاغون. اليقظة الحدودية تعطل “سلاسل الإمداد” التي يدير شبكاتها “حزب المقاومة” بقيادة سيد الأوهام والخيالات حسن نصرالله. والعائدات تتراجع مع إلقاء القبض على الشحنة بعد الأخرى. شحنة الأسلحة إلى جماعة الحوثي، لكي تصبح صنعاء على ما أصبحت عليه دمشق، وشحنة أفيون سياسي، لكي تصبح “المقاومة” مشروعا لنصرة الولي الفقيه عندما يُفلس أمام شعبه.

ولكن الخبز خبزٌ على أيّ حال. وهو، بشعارات أو دونها، بمخدرات أو غيرها، يجب أن يتوفر على حد سواء للذين يتعاطون المقاومة، والذين يتعاطون الرزايا، بمن فيهم الذين ينجون من البراميل المتفجرة وميليشيات أبوالفضل العباس، وصواريخ “أبوعلي بوتين”. لأنه خبز في النهاية. وهو الحد الأدنى، أو ما دون الأدنى لإقامة الأود.

لا تعرف كم بقي من الحياء لمن وقفوا وراء كل ما صنعوا من خرائب. ولكن المرء يستطيع أن يعرف أن العيش في نظام للهلوسة لن يشعر بأنه مسؤول عما انتهت إليه يداه. ولن يطلق سراح البلاد التي استملكها من أبيه بالطابو العقاري، أخرائب أصبحت، أم ساح شعبها بين البلدان هربا من الجوع والقذائف.

لا تعرف أيضا، كيف الذين يهلوسون بهلوساته، لماذا لا يدعمون شعبه في جوعهم على الأقل. إذ ما الذي ينقص على “أبوعلي بوتين” أن يرسل شحنة حبوب إلى سوريا من تلك التي يقول إنها يجب أن تذهب إلى الدول الفقيرة، ويلوم الحكومات الأوروبية على أنها لا تفعل مع شحنات الحبوب الأوكرانية. ولئن يوجد سقف لأسعار النفط الروسي، فلماذا لا يخرق السقف، من تحت، بتقديمه مجانا لصاحبه الوفي. على الأقل لكي لا تشوب سمعة روسيا الحسنة، في حلب وضواحيها، أي شائبة تقول إنها ناجحة في القصف فقط لا في إطعام ضحاياه. الرفيق بشار ليس فولوديمير زيلينسكي في النهاية.

لا تعرف أيضا وأيضا، لماذا لا يبادر الولي الفقيه، بتصدير القمح بالتوازي مع “تصدير الثورة”. لكي لا يقال إنها ثورة “زينبيات” فقط، للمتع المؤقتة. فحتى “الزينبيات” لا يمكن أن يمارسن “زينبياتهن” من دون طعام. صحيح أنه منبوذ، حتى من أخته نفسها، وصحيح أنه مجرم في أعين الملايين من الإيرانيين، ولكن حتى المجرم لا بد وأن يحتفظ لنفسه بمقدار معقول مما قد يبرر الشفاعة له بإطعام الجياع. أم تراه يقول: “أنطعم مَنْ لو يشاء الله أطعمه”.

ولا حاجة إلى أن تذهب بعيدا لمن أراد أن يعود بشار إلى الجامعة العربية، من دون أن يرسل لشعبه طحينا أو مازوتا. فالنضاليات الفنتازية، لا تصل إلى ذلك الحد، في ثقافة الهلوسة، لا شيء إلا لأنها هلوسة كبتاغون من دون كبتاغون.

هؤلاء هم، على أيّ حال، هم رب الخبز، ورب ضياعه. هم رب الطحين والمازوت. ورب القنابل. ورب الخرائب.

فرحماك يا هذا الرب. رحماك يا رب الخبز السياحي. أنقذ مَنْ بقي من شعب لم يعثر على طريق سياحي لأجل الوصول إلى ما قد يتاح من الخبز العادي.

رحماك يا خامنئي ويا أبوعلي ويا رب القنابل وغيرها، أرسل لصاحبك الوفي شيئا يُطعم به شعبه.

إنه، كما تراه، وفيّ. وكلما جاع، كلما أصبح أكثر وفاء لك ولنفسه.

رحماك، لقد أفلس. إلا من شعارات ما يزال يرددها من خلفك ضد الإمبريالية التي تحاربك وتحاربه.

رحماك، إذ تركت القنابل شعبا ينظر إلى خبزه نظرة أحلام، فإن لم يسح، صار خبزه هو السياحي!

الكاتب: علي الصراف

المصدر : العرب اللندنية

 

قد يعجبك ايضا