رأس العين وتل أبيض…. “منطقة آمنة” معدومة الأمن وتغيير ديموغرافي ممنهج

لكل بلدة أو مدينة ما في هذا الوجود أيام معلومة في تاريخها، أيام حلوة ومرة، تسطر في وجدان سكانها، وتحفظ عن ظهر قلب، كيف لا، وهذه الأيام لها أن تغير حياة المدن والسكان مئة وثمانين درجة، إن كانت نحو الأفضل، أو نحو الأسوأ.

 

وكسائر المدن في دول العالم، كان لمدينتي سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، وأجزاء من ريفهما، حصة مع كتب التاريخ.

المدينتان اللتان كانت البيوت فيهما ملجأً لآلاف السوريين الهاربين من رحى الحرب، تحول سكانها بين ليلة وضحاها إلى نازحين هجروا قسراً من بطش مجموعات إرهابية تابعة للنظام التركي، الذي أبى إلا أن يدنس أرضهما الطاهرة.

بالنسبة لمدينتي سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، فما بعد التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2019، ليس كما قبله، المدينتان كانتا على موعد مع أحلك صفحات تاريخهما الممتد عبر آلاف السنين، فقبل مغيب شمس ذلك اليوم باغت جيش الاحتلال التركي ومجموعة من العناصر الإرهابية التابعة له، المدنيين الآمنين في منازلهم، وبدأوا بعملية احتلالهما، أمام مرأى ومسمع المجتمع الدولي، الذي آثر الصمت، على أن يقف في وجه الآلة العسكرية التركية الضخمة.

البداية

أطماع النظام التركي بالمدينتين بدأت فعلياً مع النهاية العسكرية لتنظيم داعش الإرهابي في آذار/ مارس عام 2019، في آخر معاقله ببلدة الباغوز المتاخمة للحدود العراقية، أقصى شرقي سوريا في ريف دير الزور.

منذ ذلك الحين زادت وتيرة تصريحات رئيس النظام التركي رجب أردوغان حول نيته إنشاء ما سماها منطقة آمنة يوطن فيها اللاجئين السوريين، الذين ضاق ذرعاً بهم الأتراك، بعدما باتوا عبئاً إضافياً أثقل كاهل الاقتصاد التركي المتهالك منذ ذلك الحين وإلى هذا اليوم، حسب وصفهم.

المانع الوحيد الذي أجل احتلال المدينتين وأجزاء من ريفهما كان تواجد قوات أمريكية تابعة للتحالف الدولي المناهض لتنظيم داعش الإرهابي، وبعد فترة وجيزة من إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إجلاء قوات بلاده لمواقع تتمركز فيها في سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، حتى بدأ جيش الاحتلال التركي مخططه، دافعاً بعناصر الفصائل الإرهابية التابعة له في مقدمة القوات التي هاجمت المدينتين.

اكتظاظ المدينتين الآمنتين بالسكان، لم يردع النظام التركي عن شن الهجوم الجوي والبري الذي أعلن عنه في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2019، واستخدمت خلاله شتى أنواع الأسلحة حتى المحرمة دولياً منها، وفق منظمات دولية، وكانت المشاهد القادمة من هناك تؤكد على ذلك.

حينها نددت كل من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي بالعدوان التركي على شمال وشرق سوريا، لكن هذا التنديد والاستنكار لم يكن بتلك القوة التي تمنع النظام التركي عن تنفيذ مخططاته الرامية إلى قطع وصال مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، كما أن أردوغان هدد أوروبا بفتح حدود بلاده للاجئين السوريين المتواجدين في تركيا، للتوجه نحو القارة الأوروبية، في حال لو وصف الاتحاد الأوروبي بما يجري في لحظتها بالاحتلال.

وحينها أيضاً أعلنت قوات سوريا الديمقراطية أنها لن تتخلى عن الأراضي التي حمتها وحررتها من أعتى التنظيمات الإرهابية، وأعلنت المقاومة كسبيل وحيد لمواجهة الهجوم التركي، الذي توقف بعد خمسة أيام، بعقد اتفاق يقضي بوقف إطلاق للنار، وتثبيت خطوط التماس، أي بمعنى آخر احتلال سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض.

الاحتلال يشرعن النهب

خلال الساعات الأولى للهجوم غادر عشرات آلاف المدنيين المدينتين وريفهما، وتركوا خلفهم ذكرياتهم وممتلكاتهم على أمل أن ينقشع ضباب الاحتلال ولو بعد حين.

عناصر الفصائل الإرهابية استولوا على ممتلكات المدنيين من منازل وأراض زراعية ومحلات تجارية، وفيما بعد أرسلوا مقاطع فيديو أو صور لتلك الممتلكات لأصحابها وطالبوا بمبالغ مالية طائلة شريطة تسليمهم أوراق وثبوتيات رسمية تخص السكان الأصليين.
وحولت الكثير من المحلات المستولى عليها إلى معارض لبيع الأسلحة، في دليل على هشاشة الوضع الأمني في المنطقة الآمنة التي زعم أرودغان إنشاءها هناك.

هكذا حدث مع ممتلكات السكان الأصليين الفارين من بطش الاحتلال وفصائله الإرهابية، أما من تبقى منهم في أرضه وداره، فلم يرى من النعيم شيء، فجميعهم مشروع اختطاف بحجة أو بدونها، في سبيل تحصيل فدى مالية ضخمة من ذويهم، إن كانوا مقيمين في المناطق المحتلة أو خارجها.
ووفقا لرابطة تآزر للضحايا، وهي مؤسسة غير حكومية، تعمل على توثيق كافة انتهاكات حقوق الإنسان في شمال وشرق سوريا، فقد احتجزت الفصائل الإرهابية أكثر من مئتي شخص العام الماضي، أفرج عن البعض منهم مقابل مبالغ مالية.

ومن يسلم من الاختطاف فهو مطالب بدفع إتاوات ما أنزل الله بها من سلطان لتلك الفصائل التي تدعي حمايته وحماية عائلته.

التغيير الديموغرافي

لم يقتصر عمل الاحتلال التركي وفصائله الإرهابية على نهب المحلات والاستيلاء على الممتلكات، بل بدأوا فور احتلالهم للمدينة بسياسة ممنهجة هدفها تغيير ديموغرافية المنطقة، وترحيل السكان الأصليين منها، وذلك من خلال مضايقات أمنية، والتهديد بتصفية من تبقى منهم في داره.

كل ذلك ترافق مع عمليات توطين لعائلات عناصر الفصائل الإرهابية ضمن مخطط يشمل توطين مليون لاجئ سوري من مختلف المناطق السورية والمتواجدين في تركيا، إلى جانب توطين عراقيين، رغم أنه لم يكن هناك أي تواجد لعراقيين في سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، قبل تاريخ الاحتلال، وهو ما أكد وجود عناصر تابعة لتنظيم داعش الإرهابي في المدينتين المحتلتين.

التغيير الديموغرافي لم يقتصر على تهجير السكان الأصليين من كرد وعرب وشيشان وأرمن وسريان والعديد من المكونات، بل وصل إلى فرض تدريس اللغة التركية في المدارس، ومنح أفضلية للتوظيف لمن يتقنها، بالإضافة إلى فرض التعامل بالليرة التركية على الجميع، في إشارة أخرى إلى أن النظام التركي لا يسعى لتغيير هوية المنطقة فقط، بل يطمح لسلخها عن محيطها السوري، وضمها فيما بعد إلى خارطة تركيا، على أمل تحقيق الميثاق المللي الذي يرسم خارطة تركيا وهي تضم مدناً سورية وعراقية وبلغارية ويونانية وأرمينية.

السكان الأصليين للمدينتين والذي يقدر عددهم بنحو ثلاثمئة ألف نازح، دفعهم التغيير الديموغرافي الممارس في مناطقهم للاحتجاج أكثر من مرة أمام مقار المنظمات الدولية في مدينة قامشلي شمال شرقي سوريا، للتنديد بالصمت الدولي إزاء ذلك.

اقتتال الفصائل

يوماً بعد يوم، تتضح زيف ادعاءات رئيس النظام التركي رجب أردوغان بخصوص عزمه إنشاء منطقة آمنة بمساحة تقدر بمئة وعشرين كيلومتراً مربعاً، إذ تشهد سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض المحتلتين إلى جانب أجزاء من ريفهما اشتباكات مسلحة بين الفصائل الإرهابية التي يسيطر كل منها على عدة أحياء.

اشتباكات تندلع بين حين وآخر نتيجة الخلاف على حصص كل فصيل من المواد المصادرة من المواطنين، أو نتيجة خلافات داخلية ضمن الفصيل الواحد، وهذه الاشتباكات غالباً ما تودي بحياة مدنيين لا ناقة لهم ولا جمل في هذا الإشكال أو ذاك.

كما أن المدينتين وكذلك ريفهما باتت تشهد عمليات تفجير إما لدراجات أو لسيارات في الأسواق الشعبية أو قرب حواجز الفصائل الإرهابية، في دلالة أخرى على الفلتان الأمني في المنطقة.

اصطياد عناصر داعش

ومع احتلال أي مدينة سورية من قبل النظام التركي وفصائله الإرهابية، تصبح تلك المدينة مأوى وملجأً للإرهابيين من شتى أصقاع الأرض، فمن الزعيم الأبرز للتنظيم الإرهابي أبو بكر البغدادي مروراً من خلفه بالمنصب، وصولاً إلى إعلان التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في سوريا والعراق، اعتقال قياديين اثنين يعملان لصالح تنظيم داعش في شمال شرقي سوريا.

وذكرت وسائل إعلام دولية أن العملية تمت خلال عملية إنزال جوي على قرية قرب مدينة رأس العين المحتلة شمالي الحسكة وقيل إن أحد المعتقلين عراقي الجنسية، والآخر سوري.

الأمل

إذاً إنها أربع سنوات عجاف في تاريخ سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض المحتلتين، وسيبقى يوم التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام، يوماً أسوداً في تاريخهما، كما أنه سيكون يوماً للتأكيد من قبل السكان الأصليين النازحين على العودة إلى أرضهم ودورهم التي تركوها مكرهين لا راغبين.

Advertisements
قد يعجبك ايضا