رأس السنة الإيزيدية.. حين يزهر التاريخ وتغني الأرواح للحياة (خاص)

في زحمة الأيام، هناك لحظات لا تُشبه غيرها، لحظات تنبض بالأصالة، وتُطرَّز بثوبٍ من نورٍ ودفء، تمامًا كما هي لحظة رأس السنة الإيزيدية، أو كما تُعرف بـ “جارشما سور”، أي “الأربعاء الأحمر”، وهي واحدةٌ من أقدم الأعياد في حضارات ميزوبوتاميا، ومناسبةٌ يختلط فيها التاريخ بالعقيدة، والروح بالأرض، والحب بالحياة

يُصادف العيد يومَ الأربعاء الأول من شهر نيسان أبريل حسب التقويم الشرقي، أي غالبًا في منتصف نيسان أبريل بالتقويم الميلادي، وفي هذا العام يصادف في السادس عشر منه، ولا يُعد الاحتفال بعيد رأس السنة الإيزيدية مجرد مناسبةٍ دينية أو تقليدية فحسب، بل هو تجسيدٌ فلسفي عميق للبداية، للانبعاث، ولانتصار الحياة على الموت.

في هذا اليوم، يُضفي الإيزيديون لمساتٍ سحرية على تفاصيل حياتهم اليومية، ويغمرون القرى والبيوت بالألوان والزهور. تبدأ التحضيرات قبل العيد بأيام، حيث يُنظَّف البيت، وتُزين الأبواب والنوافذ بأكاليل الزهور البرية وخصوصًا زهرة “شقائق النعمان”، التي تُعد رمزًا للخصوبة والولادة.

أما البَيض، فيُصبغ بألوانٍ زاهية ويرمز إلى الأرض حين كانت مغطاةً بالصخور، والتي انفجرت بالحياة فجأة، تمامًا كما يُكسر البيض في تقليدٍ شعبي يجسد كسر الجمود وانطلاق الحياة، ويُستخدم البيض أيضًا في ألعابٍ مرحة بين الأطفال، لتبقى البهجة عنوانًا لكل شيء.

ولا تخلو المائدة الإيزيدية من أشهى الأطعمة التي تُعد خصيصًا للمناسبة، حيث تُقدَّم الأطباق النباتية كنوعٍ من التقدير للطبيعة، وتُوزع الحلويات على الجيران والأقارب في جوٍّ من المودة والفرح.

تُضاء المشاعل على التلال، وتُشعل الشموع في الزوايا، ليكون النور رمزًا للحكمة والإلهام. وفي معبد لالش، أقدس الأماكن لدى الإيزيديين، تُقام طقوسٌ روحانية عميقة، تصاحبها الأناشيد القديمة والرقصات الجماعية التي تعبر عن الاتحاد مع الطبيعة والكون.

وتحرص الأسر على زيارة القبور، حيث تُوزع الورود وتُشعل الشموع، في تأكيد على التواصل بين الأحياء والأرواح الراحلة، في حبٍّ خالد لا ينقطع.

مهما مرّت على الإيزيديين من نكبات، ومهما تعرضوا لمآسٍ ومجازرَ على مر العصور، فإنهم يقابلونها دومًا بالحياة، لا بالموت، وبالرقص لا بالبكاء. يحتفلون بهذا العيد وكأنهم يعلنون للعالم عن ولادة حياةٍ جديدة لهم تأبى الاندثار.

في وجوه الإيزيديين يبرز الفرح العنيد، وفي أهازيجهم يُسمع نداء الأمل، وفي خطواتهم نحو لالش هناك حجارةٌ تاريخية تُنصت لهم.

المثير أن عيد الأربعاء الأحمر لا يختلف كثيرًا في روحه عن عيد النوروز عند الكرد، ولا عن عيد أكيتو البابلي الذي يحتفل به السريان الآشوريون، وحتى عيد القيامة عند المسيحيين، فكلها أعياد تشترك في رمزية الانبعاث، والحياة الجديدة، وانتصار النور، وولادة الأرض من رحم الشتاء.

وهذه الأعياد تمثل دعوةً جماعية من كل شعوب حضارة ميزوبوتاميا إلى استقبال الربيع كطفلٍ جديد، يُغسل بالحب، ويُكسى بالألوان، ويُدندن له بأغانٍ قديمة مرتبطة بالطبيعة والحياة والفرح.

في كل سنة، يعيد الاحتفال بـ “جارشما سور” تشكيل روح الإيزيديين، يجمع شتات ذاكرتهم، ويزرع الأمل من جديد. هو ليس مجرد عيد، بل هو قصيدة تُكتب بالنار والنور، وتُغنى بلغة الحياة والبقاء، وتُروى بدموع الفرح، وابتسامات شعب قرر أن يحب الحياة رغم كل شيء.