حماية المرأة ضد العنف عملية مكلفة ولا يجب التقشف فيها
القانون المتعلق بالعنف ضد المرأة من أشرس القوانين وأقلّها تسامحا على الإطلاق، وقد صُمّم لحماية المرأة من نفسها أيضا.
أتابع في الأيام الأخيرة ما تتعرض له جمعيات حقوق المرأة في تونس من معاناة من أجل وضع آليات تنفيذ القرار الأساسي عدد 53 المتعلق بمنع العنف ضد المرأة، وفي الحصول على الميزانية المناسبة لذلك، ويعتقد العاملون في هذه الجمعيات أن القوانين المتعلقة بحماية المرأة ضد العنف تتعرّض إلى تمويه وعرقلة متعمديْن من قبل جهات قضائية وإدارية معيّنة، وهو أمر محزن في الحقيقة، في حال صحته، أن يتم التعامل مع قضية تعتبر من أهم القضايا التي تعاني منها المرأة، وتعدّ العامل الأول المؤدي إلى وفاة النساء في العالم بمثل هذا التعطيل.
وأرغب أن أسوق هنا مثالا عن الصرامة والشدة التي تتميز بها القًوانين الأوروبية -ومنها الهولندي- في التعاطي مع العنف الأسري والعنف ضد النساء بشكل عام، حيث تتكاتف القوانين والأجهزة الأمنية والقضائية مع المؤسسات والمنظمات الحقوقية والجمعوية لحماية المرأة المعنفة ولتقديم الرعاية المناسبة لها، وتعمل هذه المؤسسات والجمعيات بشكل تكميلي لبعضها البعض في سلسلة مترابطة من الإجراءات القانونية والخدمات الجمعوية والحقوقية التي تتعاون في ما بينها، وتنسق بشكل مستمر من أجل تطويق المشكل وإعادة الهدوء إلى الأسرة.
وتظهر جدية التعامل مع هذا المشكل، من خلال تعاطي القانون معها، الذي يجرّم العنف بأصنافه، ويعاقب عليه بأشد العقوبات، ويكفي أن يصل بلاغ من جار أو عابر سبيل أو شاهد عيان أيا كانت صفته إلى أقسام الشرطة، حتى تتحرك وحدات الأمن للقبض على المعتدي والتحفظ عليه لحين التحقيق في الأمر، وتصنّف قوانين العنف الأسري إلى أصناف مختلفة، تندرج جميعها ضمن الجرائم التي يعاقب عليها القانون بأحكام قد تصل إلى سنوات، منها العنف الجسدي واللفظي والجنسي، وفي هذا الإطار فإن البصاق على المرأة مثلا يعتبر جريمة يحال صاحبها على القضاء، ويمكن أن يحصل بموجبها على عقوبة بالسجن تمتد لأسابيع.
القانون المتعلق بالعنف ضد المرأة من أشرس القوانين وأقلّها تسامحا على الإطلاق، وقد صُمّم لحماية المرأة من نفسها أيضا، ففي حال تراجعت الشاكية عن بلاغ تقدّمت به ضد شخص اعتدى عليها بالعنف، لأسباب شخصية أو اجتماعية أو ثقافية أو تحت ضغط أسري، يظل الحق العام قائما، ويحال بموجبه المتهم إلى التحقيق، ومن ثمّ إلى القضاء للحكم عليه بما يراه مناسبا.
ومن المفارقات المضحكة، ما روته لي سيدة لاجئة، حول تجربتها مع البوليس الهولندي في التعاطي مع العنف مع المرأة. فقد أخبرتني أنها تشاجرت مع زوجها ووصل شجارهما إلى الجيران، الذين سارعوا إلى الاتصال بالشرطة، بعد سماعهم أصوات اصطدام ناجمة عن ركلة في الباب. جاءت الشرطة وأخذت الرجل للتحقيق معه، في الأثناء انتابت السيدة أعراض الولادة وذهبت للمستشفى لوضع طفلها الأول، ورغم أنها ترجت الشرطة أن تسمح لزوجها بالقدوم إلى المستشفى للوقوف بجانبها، إلا أن الشرطة رفضت ذلك قبل استكمال إجراءات التحقيق، وبدلا من زوجها جاء رجلا شرطة يحملان لها الدباديب والورود ويأخذان أقوالها.
تتلقى المرأة المعنفة سلسلة من الخدمات والمساعدات المتزامنة ومن جهات مختلفة، فبمجرد وصول بلاغ إلى الشرطة بوجود عنف أسري، يتم الاتصال بجمعيات حماية الطفل والمرأة ويطلب منها التحرك فورا لمعرفة الوضع الأمني للأسرة، والتأكد من حجم المخاطر أو العنف الذي يهددها. وأول إجراء أمني يتم اتخاذه يتمثل في منع المعتدي من التواصل مع الأسرة أو زيارتها لعدة أيام، وهو إجراء أوكل به للمصالح البلدية وليس القضاء، تسهيلا للأمر.
بعد هذه الخطوة الأولى التي تهدف إلى إعادة الهدوء للأسرة ومنح جمعيات حماية الطفل والأسرة الوقت الكافي للتدخل، تتخذ إجراءات وقائية أخرى من بينها وضع الأسرة تحت المراقبة اللصيقة والإشراف المباشر لهذه الجمعيات لعدة أشهر، كما تنطلق برامج إعادة تأهيل الأم والأطفال لإشراكهم في دورات توعية وورش عمل ضد العنف، قد تستوجب نقلهم من مقر سكناهم إلى مراكز علاج جماعية، وفي النهاية تقدم التقارير إلى القضاء للنظر في إمكانية نقل الأطفال إلى أسر حاضنة في حالة تأكده من عدم قدرة الأسرة البيولوجية على حمايتهم، ولكُم أن تتخيّلوا حجم الجهد والعمل والمال الذي تستغرقه هذه العملية، لكنها تظل مع ذلك من الأولويات المطروحة على أجندة السياسيين والقانونيين، فلا شيء يعلو على الأسرة، النواة الأولى لأي مجتمع وعماده الأساسي.
لمياء المقدم