حق مشروع حان الوقت لإلغائه

ما من دستور في العالم إلا ويقر بحق الإضراب. وما من وثيقة دولية تتعلق بالحقوق الإنسانية إلا وتقر به أيضا، حتى أصبح أيقونة مقدسة لا يمكن المساس بها أو حتى الاقتراب منها. ولكن أنظر إلى الضرر في بلد مثل تونس، وستعرف كيف أنه بات حقا بلا معنى.

أصول هذا الحق تعود إلى ما يزيد عن قرنين سابقين من الزمان، أيام كانت الرأسمالية الناشئة تضطهد “البروليتاريا”، و تجني أرباحا طائلة على حساب شقائها. ولقد لعبت الماركسية، التي هيمنت على الحركات العمالية في كل أرجاء العالم، الدور التاريخي الأهم في جعل الإضرابات وسيلة من وسائل الضغط على الشركات الرأسمالية من أجل تحسين حياة العمال وشروط عملهم، ورفع أجورهم.

ولقد كان الفوز بهذا الحق عملا إنسانيا وثوريا أسهم ليس في حماية حقوق العمال، وتوفير شروط عمل وحياة أفضل لهم، فحسب، ولكنه أسهم في تحديث الرأسمالية نفسها، وأنسنتها، وأخضعها لضوابط صارمة. ولقد كان التقدم الاجتماعي والاقتصادي والتطور الديمقراطي بمجمله، من تلك الثمار التي حققها هذا الحق النبيل.

ولقد كان الحق في الإضراب سلاحا ضاريا ضد الإكراهات والمظالم وأعمال التمييز، مما أسهم في الارتقاء بالثقافة والأدب والفن إلى مستويات إنسانية رفيعة وملهمة. حتى ليمكن القول إن “الحق في الإضراب” أعاد بناء كل شيء في المجتمع وعلاقاته وإدارته واقتصاداته، من فوق ومن تحت على حد سواء. وفي الواقع، فإنه إذا اقتضت الحاجة أن تضع عنوانا واحدا للتقدم الإنساني الذي تحقق على امتداد القرنين الماضيين، فلن تجد شيئا أكثر جذرية وفاعلية من “حق الإضراب”.

نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين، وليس في القرن التاسع عشر. أليس لقرنين من التقدم الاقتصادي والاجتماعي أن يوفرا سبيلا لقراءة أدق لمكانة الحق بالإضراب وتوظيفاته؟

أيام كان كارل ماركس يتغنى بالثورات العمالية بالقول إنها “تنتقد ذاتها على الدوام، وتقاطع نفسها بصورة متواصلة أثناء سيرها، وتعود ثانية إلى ما بدا أنهـا أنجزته لتبدأ فيه من جديد، وتسخر من نواقص محاولاتها الأولى ونقاط ضعفها وتفاهتها باستقصاء لا رحمة فيه، ويبدو أنهـا تطرح عدوّها أرضا لا لشيء إلا ليتمكن من أن يستمد قوة جديدة من الأرض وينهض ثانية أمامها وهو أشد عتوّا، وتنكص المرة تلو المرة أمام ما تتصف به أهدافها من ضخامة غير واضحة المعالم، وذلك إلى أن ينشأ وضع جديد يجعل أيّ رجوع إلى الوراء مستحيلاً وتصرخ الحياة نفسها قائلة بصرامة: هنا الوردة، فلترقص هنا!”.

عالم الحق في الإضراب جاء من هنا. حيث توجد الوردة!

في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب “الثامن عشر من برومير-لويس بونابرت”، الذي اقتبسنا منه النص أعلاه، كتب ماركس في 23 يونيو 1869 ملاحظة جذرية تميز بين عصرين. تقول الملاحظة “إن النقطة الرئيسية تظل منسية في هذا التشبيه التاريخي السطحي (للقيصرية)، ألا وهـي أن الصراع الطبقي في روما القديمة كان يجري ضمن دائرة أقلية ذات امتياز فحسب، بين الأغنياء الأحرار والفقراء الأحرار، بينما كان السواد الأعظم من السكان المنتجين، أي العبيد، لا يشكلون سوى القاعدة الخاملة لهؤلاء المتصارعين. إن النـاس ينسون ملاحظة سيسموندي السديدة التالية: إن البروليتاريا الرومانية كانت تعيش على حساب المجتمع بينما يعـيش المجتمـع الحديث على حساب البروليتاريا”.

هذه الملاحظة الجذرية التي حددت معالم ذلك الكتاب – النشيد، تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار اليوم. فالحقيقة الماثلة للعيان هي أن المجتمع الذي كان يعيش على حساب البروليتاريا، انقلب تماما، إلى درجة أن البروليتاريا عادت من جديد لتعيش على حساب المجتمع!

بعد كل الضمانات والحقوق التي حصلت عليها البروليتاريا، فإن الاقتصاد الحديث لم يعد يعتمد في عائدات الثروات التي يجنيها على عرق جبين البروليتاريا وسواعدها. هذه الطبقة اضمحلت إلى أدنى الحدود، وتراجع نفوذها الاقتصادي، كما تراجع نفوذها السياسي والاجتماعي. الأمر الذي يجعل من إضراباتها، عملا من أعمال الابتزاز السياسي، الذي لا يستند إلى معايير اقتصادية موازية.

اذهب إلى فرنسا، وهي أصل من أصول الثورات البروليتارية القديمة، لترى أن “بروليتاريتها” الجديدة تريد امتيازات أكثر، مقابل عمل أقل. صناديق التقاعد هناك تواجه الإفلاس، بسبب ما تحقق من رفاهية وخدمات أدت إلى إطالة معدلات الأعمار. وظلت الطبقة العاملة تتظاهر ضد زيادة سنوات العمل قبل التقاعد. كان معدل الأعمار في القرن التاسع عشر يبلغ نحو 55 عاما، وزاد بسبب التقدم العلمي والرخاء الاقتصادي ليصل إلى نحو 75 عاما. زادت الأعمار عشرين سنة، على ما كان مجتمع قهر واضطهاد وتمييز وفقر، فصار مجتمع رخاء ورفاهية يريد العمال فيه أن يعملوا أقل ويحصلوا على أكثر.

دولة الرفاهية والرعاية الاجتماعية الفرنسية، إلى جانب الشركات الخاصة، تعطي للعمال، من منظار لا يقتصر على الإنتاجية، كما كان الحال من قبل. ولكنه يشمل الاستقرار الاجتماعي أيضا، والمرونة الاقتصادية بما يتوافق مع التقدم العلمي وإنتاج المعارف.

عمليا، صارت البروليتاريا الحديثة، هي التي تعيش على الدولة، وعلى الشركات الرأسمالية أيضا. تحتاج الدولة والشركات عمالا لإنجاز خدماتها ومشاريعها. ولكنهم حسب العديد من المقاييس الإنتاجية، عالة على المجتمع. وهو وضع تقبله الدولة والشركات طوعا، لأنها لم تعد مجرد جهاز تشغيل، وإنما مؤسسات رعاية اجتماعية أيضا.

ما هو معدل إنتاجية العامل في تونس؟ كم ساعة في اليوم؟ سؤال يتطلب جوابا، لكي تعرف كم بقي من حقه في الإضراب عن العمل، أو التهديد به.

الحق في الإضراب مقدس. حتى ليكاد المساس به يبدو وكأنه كفر وجريمة. ولكن لو عاد ماركس حيا، وأخذ بنظر الاعتبار، وجهة نظره نفسها، ليكتشف حقيقة أن البروليتاريا صارت هي التي تعيش على حساب المجتمع، فإن شجاعته لن تتردد في أن تقبل تكييف هذا الحق، بما يتناسب مع وقائع الحياة المعاصرة.

الدولة في تونس مأزومة لأنها تنفق أكثر مما تنتج. وعمالها يُضربون لأنهم مقتنعون أنها يجب أن تقدم لهم أكثر، بينما يقدمون لها أقل.

 

الكاتب:علي الصراف

المصدر :العرب

 

قد يعجبك ايضا