ما بين تاريخ الثامن من آذار/ مارس عام 1963 ولغاية تاريخ الثامن من كانون الأول/ ديسمبر من عام 2024، صُبغت سوريا بلونٍ واحد، ألا وهو لون حزب البعث، الذي كان مثالاً حياً للشوفينية العنصرية على أساس العِرق، طيلة ستة عقودٍ من حكمه لسوريا.
وما بين السابع من نيسان أبريل عام 1947 وهو تاريخُ تأسيس الحزب ولغاية تاريخ التاسع والعشرين من كانون الثاني يناير 2025، وهو تاريخ حلّه نهائياً في سوريا، سنَّ حزب البعث الكثيرَ من التشريعات، ومارس الكثير من السياسات القائمة على زرع الشقاق بين السوريين، حتى باتت عُرفاً في المجتمع السوري، وجُرحاً لا يبرأ في وجدان الشعب.
الحزب بدأ بتطبيق أفكاره في السنوات الأولى من حكمه، إذ صاغ دستورًا عُرف بدستور عام 1964، والذي كان يعكس أفكاره بالنسبة للدولة والسلطة، قبل أن يُقِرَّ في عام 1969 دستوراً جديداً، مكّن نفسه من خلال مواده من السيطرة على مفاصل الدولة، مع سطوع نجم حافظ الأسد الذي وصل إلى الحكم في انقلابٍ عسكري، أسماه الحركة التصحيحية عام 1970.
وفي عام 1973 جاء الدستور الذي فصّله الأسد على مقاسه، إذ كان الحزب في مادته الثامنة قائداً للمجتمع والدولة، وبموجب هذه المادة احتكر الحزب لنفسه ممارسة النشاط السياسي في كافة مؤسسات الدولة والجامعات والمدارس، وأسس تنظيماتٍ لكسب منتسبين جُدُدٍ على غرار اتحاد الطلبة وشبيبة الثورة وطلائع البعث، وهذه الأخيرة كانت تؤدلجُ الأطفال في المدارس الابتدائية على أفكار الحزب.
الحزب سيطر على كافة مؤسسات الدولة والنقابات، وأفرغ العمل النقابي من جوهره، وبفضل منظومته الأمنية، دكَّ معارضين له في غياهب السجون، وعزل البعض من مناصبهم، ودفع البعض الآخر للهجرة من البلاد، وخوّن الكثير منهم، واتهمهم بتهمٍ ما أنزل الله بها من سلطان.
إنكارُ الآخر، سمةٌ أخرى من سمات سنوات حكم حزب البعث في سوريا، فلا كُرد ولا سريان آشوريين، ولا تركمان ولا شركس في سوريا، فهي وفق تشريعات حزب البعث عربية، وكل سكانها عرب، في تزييفٍ تامٍّ للحقائق التاريخية.
شمال وشرق سوريا كانت لها الحصة الأكبر من سياسة التهميش التي مارسها الحزب طيلة ستين عاماً من حكمه لسوريا، فالمنطقة كانت الأقلَّ تنميةً مقارنةً مع نظيراتها الأخريات في سوريا، كما طبّق الحزب سياسة ما عُرف لاحقاً بالحزام العربي، والتي هجّرت الآلاف من العرب من سكان محافظة الرقة، إبّان بناء السد على نهر الفرات، ونقلهم إلى محافظة الحسكة، وتم تمليكهم لأراضٍ زراعية خصبة، جُرّدت ملكيتُها من أصحابها الكرد، في تغييرٍ ديمغرافيٍّ يهدف لقطع صلة الوصل الجغرافية بين الكرد في سوريا وأشقائهم في تركيا.
نهاية حزب البعث في سوريا شابهت إلى حدٍّ ما نهاية حزب البعث في العراق، فبعد عقودٍ من البطش والقمع وتهميش الآخر، أعلن الحزب تعليقَ كافة نشاطاته في الثاني عشر من كانون الأول ديسمبر الفائت، مع سقوط نظام بشار الأسد قبل ذلك بأربعة أيام، لتأتي الفصائل المسلحة التي سيطرت على الحكم في دمشق، وتعلن حلَّه في التاسع والعشرين من كانون الثاني يناير، لتطوى بذلك صفحةٌ سوداءُ من تاريخ سوريا.
ومع بداية حقبةٍ جديدة في سوريا خاليةٍ من حزب البعث، يأمل السوريون ألا تتكرر أخطاء الماضي في الوقت الراهن، فالشعب الذي خرج على نظامٍ متغلغلٍ في مفاصل الدولة على مدار عقود، لن يعجز عن المطالبة بحقوقه مجدداً إذا ما استشعر وجودَ نظامٍ مستبدٍ يلوح في الأفق، وكما أسقط نظاماً سياساً قائماً على أساسٍ قومي، يستطيع أن يسقط نظاماً سياسيًا قائماً على أساسٍ ديني، فكما لم تكن سوريا عربيةً صِرفةً يومًا ما، فهي كذلك لم تكن إسلاميةً خالصةً عبر التاريخ.