في جميع العصور، وُضِعَت معايير لتنظيم الحياة المشتركة وتأمين صيرورتها، وُحددت بها الحقوق والواجبات اللازمة في إطار العيش سوياً. وضَعَ الإنسان منذ بدء مسيرته على الأرض، مبادئ وقيماً أساسية عديدة ليحدد نمط الحياة الاجتماعية داخل مجتمعه البدائي، ولينطلق منها نحو بناء حضارات، ومن ثم ثورات على القوانين التي وضعها بنفسه في مراحل تاريخية سابقة، لتحقيق التغيير والتطوير.
كُتِبَتْ القوانين على يد القادة والملوك ورجال الدين وأسياد السلالات الحاكمة، على الرُقم الطينية والحجارة، وعُلِقَتْ على جدران المعابد ومداخلها، ونَظمت هذه القوانين نمط الحياة الأسرية منها والتجارية بين الناس، ورغم أن جميع هذه القوانين جاءت لتنظيم حياة الناس، وإحقاق الحقوق، وقطع الطريق أمام السلب والنهب والتسلط، إلا أنه ومع مرور الأيام ومع إحلال القانون محل الأخلاق والأعراف، لم تحقق هذه القوانين العدل المنشود، وتوهم الجميع بالعيش بسلام في ظل هذه السنن أو ما يُسمى “الدستور الأول للقبيلة”، إذ تبين أن العيش وفقًا للقيم الأخلاقية والأعراف الاجتماعية كان أسهل وأعدل من العيش تحت سيادة القوانين، التي فرضها رجال السلطة والحكام وقادة السلالات.
في المجتمعات البدائية الطبيعية كانت إدارة المرأة ونظامها الأمومي هي التي تحكم بين أفرادها وعليه تُحدد العلاقة الاجتماعية بين مكونات المجتمع، إلا أنه مع ظهور النظام البطرياركي الطبقي والسلطوي، سادت القوانين مكان الأخلاق، وظهرت الدساتير الكتابية التي تحدد الحقوق والواجبات بدل الأعراف والتقاليد الاجتماعية، وتم سن العديد من الدساتير عبر المراحل التاريخية لتطور الإنسان والمجتمعات، وجاءت جميعها على مقاس الذهنية الحاكمة التي تقف وراء سن هذه القوانين وفي خدمتها.
مع بداية ظهور أدوات الإنتاج البدائية وتحقيق الثورة الزراعية، وتوسع وانتشار القبائل، وظهور الحضارات وهيمنتها، بدأت الشرائع والقوانين بالتطور أيضاً، فحضارة بابل التي حكمتها شريعة حمورابي ورغم محاولتها لتحقيق العدالة الاجتماعية واعتمادها مبدأ “العين بالعين والسن بالسن” إلا أن قوانينه قسمت المجتمع إلى طبقات والعقوبة لم تكن دائماً موحدة، بل حسب الوضع الاجتماعي للجاني، ورغم أن جميع الدساتير والقوانين التي صدرت خلال كافة مراحل التاريخ جاءت بهدف تنظيم حياة الناس وتحقيق الحقوق والعدالة، إلا أنها لم تفلح في ذلك قط، لأنها كانت نتاج ذهنية فئة حاكمة ومتسلطة على رقاب الشعب، فجاءت لتخدم فكرها وتصورها في نمط الحياة المنشودة، وهذا ما حدث في سوريا، الدولة الصغيرة المكونة من أكثر 23 مليون نسمة، فحكمتها دساتير مختلفة رغم صغر نشأتها.
ففي عام 2011 بدأت الاحتجاجات وتطورت إلى حمل السلاح لإسقاط نظام البعث “القائد للدولة والمجتمع” والذي حكم سوريا لنحو 60 عامًا، واستمرت معاناة الشعب السوري من الحروب والدمار والقتل ومازال لم يهدأ رغم سقوط نظام بشار الأسد، في نهاية عام 2024، حيث تم تعيين رئيس انتقالي لإدارة البلاد في فترة ما بعد الأسد، والذي قام بإلغاء العمل بدستور عام 2012م. دون وجود دستور بديل ينظم الحياة في سوريا الجديدة.
يكشف التاريخ الدستوري السوري بوضوح عن حجم التدخل العسكري عبر الانقلابات المباشرة أو الحكم غير المباشر في العملية السياسية، وكذلك الدستورية، ويبين أن الدولة السورية لها تاريخ عريق من التداخل اللاشرعي بين العسكر والدستور والسياسة، لتبرير ما لا يبرر وصياغته على مزاج أو مقاس شخصية الحاكم.
فبعـد انهيـار السـلطنة العثمانيـة وبعد أربعة قرون من الحكم المركزي الشديد، حيث عانى العرب مثلهم كالشعوب الأخرى من المركزية التركية وحفاظا على حقوقهم كأقلية نادوا باللامركزية وبتاريخ 2 تمـوز/ يوليـو 1919 انعقـد المؤتمـر السـوري واتخـذ قـراراً تم توجيهه الى لجنة الاستفتاء يطالبون فيه “تكون حكومة هذه البلاد السورية ملكية مدنية نيابية تدار مقاطعاتها على طريقة اللامركزية الواسعة، وتحفظ فيها حقوق الأقليات” حيث لم يكن هناك أي سوري احتج وقت ذاك على اللامركزية.
دساتير سوريا
وُضع أول دستور لتنظيم الحياة العامة في سوريا الحديثة سنة 1920، نصّ هذا الدستور على أن حكومة سوريا؛ حكومة ملكية مدنية نيابية وملكها هو فيصل بن الحسين. الحكومة كانت مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب وذات سيادة تشمل كل من فلسطين ولبنان والأردن. وقد ضمن بعض الحقوق مثل المساواة بين الجميع، وحرية التعبير، وضمان استقلال السلطة القضائية ولم يعمل به إلا فترة وجيزة حيث وجه الجنرال غورو الفرنسي إنذاره وتم إنهاء المملكة..
ركّز دستور 1920 على شكل الدولة الفيدرالي مع الحفاظ على استقلال ذاتي واسع للمقاطعات، وتدار على أساس الحكم الذاتي، على أن يكون لكل مقاطعة حاكم عام، يعينه الملك ومجلس نيابي وحكومة محلية، الحكم ملكي نيابي، وضمان الحريات المدنية والدينية والشخصية بصورة تشبه شرعة حقوق الإنسان والمواطن، التي أعلنتها الثورة الفرنسية عام 1789م.
– المادة 13 من الدستور، نصّت على حرية المعتقد والأديان، الذكر الوحيد لدين الإسلام جاء في نص دين الملك نفسه ولم يصرّ على أن تكون الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع في المملكة السورية الوليدة. كما نصت المادة 7 على أن يقسم الملك أمام المؤتمرين “يمين الاحترام للشرائع الإلهية، والأمانة للأمة والمراعاة للقانون الأساسي”.
–
التمثيل المنصف وقانون الانتخابات “تعتبر كل مقاطعة دائرة انتخابية واحدة بالنسبة للأقليات، ويكون النصاب لها ثلاثين ألفاً والكسر المعتبر فيها دون النصاب خمسة عشر ألفاً” حيث كان الربع من مجلس النواب من الأقليات /مبدأ الكوتا/
– المقاطعات تدار على طريقة اللامركزية في إدارتها الداخلية، ما عدا الأمور السيادية التي تدخل في اختصاص المركز “دمشق”
– ففي المادة 123 لكل مقاطعة في سوريا مجلس نيابي يدقق ميزانية المقاطعة ويسن القوانين وفقاً لحاجاتها
الدستور السوري في عام 1930
في ظل الانتداب الفرنسي، تم فرض دستور جديد ينص على أن سوريا جمهورية برلمانية نيابية، ويُنتخب رئيسها من قبل البرلمان. كما فصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. ورغم مراعاة الدستور للمساواة بين الجميع وحرية التعبير، إلا أنه كان يحتوي على مادة 116، التي كانت تمنح المفوض السامي الفرنسي الحق في تعليق الدستور وإلغاء أي قانون يراه مخالفًا لمصالح فرنسا، واستلهم من الدستور الفرنسي لعام 1875 حقوق الطوائف الدينية المختلفة بما فيها إنشاء المدارس لتعليم الأحداث بلغتهم الخاصة، وتمثيل الأقليات الطائفية، بالإضافة إلى الحقوق التقليدية للإنسان والمواطن.
الدستور السوري في عام 1950
مع استقلال سوريا من الانتداب الفرنسي، تشكلت جمعية تأسيسية انتخبت /114/ عضواً من الأحزاب السياسية وعلى إثرها تشكلت اللجنة الدستورية، مارست أعمالها في 9 أشهر وعقدت 62 جلسة، لوضع دستور جديد للبلاد، وفي جلسة التصويت التي شهدت معارضة 6 أعضاء منهم جلال السيد من رموز البعث، وعصام المحايري من الحزب القومي السوري الاجتماعي، تم وضع دستور جديد بمقدمة و166 مادة من عشرة فصول نص على أن سوريا جمهورية عربية نيابية ذات سيادة تامة والسيادة للشعب، ورئيسها منتخب، لكن لا يملك مطلق الصلاحيات بل يخضع لرقابة البرلمان. كما تم فصل السلطات الثلاث واحترام حقوق الشعب
ومن أهم خصائص هذا الدستور: إقامة نظام جمهوري نيابي، مدة ولاية رئيس الجمهورية خمس سنوات. والفصل بين السلطات الثلاث مع جعل السلطة التشريعية هي الأولى، وحصر السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء، وضمان استقلال القضاء، وإحداث محكمة عليا تراقب دستورية الأنظمة والقوانين، والتوفيق بين اتجاهات تعكس حدة الصراع الاجتماعي والسياسي في سوريا آنذاك وهي: اتجاه قومي، حيث تنص المادة الأولى على أن “الشعب السوري جزء من الأمة العربية”. واتجاه ديني، حيث ينص الدستور على أن دين رئيس الجمهورية الإسلام والفقه الإسلامي هو المصدر الأساسي للتشريع. واتجاه اشتراكي إصلاحي، حيث يعين القانون حداً أعلى لحيازة الأراضي وتشجيع الملكيات الصغيرة والمتوسطة وتشجع الدولة على إنشاء الجمعيات التعاونية. وبقايا الليبرالية لا سقف أعلى للملكية القديمة.
الدستور السوري المؤقت لعام 1958
قد جاء الدستور المؤقت للجمهورية المتحدة، واستولى الرئيس على جميع سلطات الحكم بما فيها السلطة التشريعية، واختفى مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، فقد منح الدستور للرئيس سلطة تعيين أعضاء مجلس النواب، وسلطة دعوة المجلس للانعقاد في أي وقت وأي مكان وله أن يفض دورته متى ما يشاء، بل أن الرئيس يستطيع حل البرلمان برمته وتشكيل مجلس جديد كما منح الدستور للسلطة التنفيذية الممثلة برئيس الجمهورية سلطة سلب المهمة الرئيسة للسلطة التشريعية وهي إصدار القوانين.
الدستور السوري المؤقت لعام 1961
تم وضع استثناء خطير في هذا الدستور، وهو أن لرئيس الجمهورية في أي وقت كان أن يحل مجلس النواب بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، وهذا الاستثناء يهب رئيس السلطة التنفيذية إمكانية حل ّ السلطة التشريعية مع فترة تفرد بالسلطة طويلة، دون رقابتها مع حيازته لصلاحية التشريع، ما يتيح له خلق ظروف يصعب العودة عنها.
الدستور السوري المؤقت لعام 1969
القيادة القطرية لحزب البعث وبعد إنهاء منافسيها وترسيخها للحكم الاستبدادي، وضعت قواعدها في قالب دستور 1969 على أنه دستور مؤقت ففي المادة /7/ فرضت أيديولوجية الحزب في كل تفاصيل الحياة “الحزب القائد في المجتمع والدولة، هو حزب البعث العربي الاشتراكي”.
الدستور السوري المؤقت لعام 1973
مع بدء عهد ما يسمى بالحركة التصحيحية أو عهد انقلاب حافظ الأسد، نص الدستور على أن نظام الحكم جمهوري، حيث يملك الرئيس كافة الصلاحيات ويشغل أعلى المناصب التنفيذية والعسكرية. كما نص الدستور على وجود حزب البعث كحزب حاكم، وتكريسه لأيديولوجية الحزب الشمولية ومنها القطر العربي السوري هو جزء من الوطن العربي وأن الشعب السوري جزء من الأمة العربية، “يناضل” من أجل تحقيق وحدتها وأن مهمة القوات المسلحة ليست الدفاع عن حدود الوطن فحسب، بل أيضاً حماية أهداف ثورة البعث، كما أن الرئيس ينتخب من الشعب بعد اقتراحه من القيادة القطرية للحزب، وأن السلطة التنفيذية ممثلة بحافظ الأسد هيمنت على السلطة التشريعية والقضائية، رغم تأكيده على احترام حقوق الشعب.
وكان القمع والترهيب والاعتقالات أساس الحكم، وبعد وفاة حافظ الأسد، تم تعديل المادة 83 من الدستور لتمكين الرئيس من تولي الحكم في سن 38 عامًا ليتماشى مع عمر الرئيس الجديد.
وجرى تعديل الدستور السوري في عام 2012، الذي جاء مشابهًا لسابقه إذ نجد أنه جاء نسخة مستنسخة من دستور 1973، الذم جثم على صدر السوريين وحبس أنفاسهم لعقود من الزمن، فنصوص المزاد في الدستورين مشابهة لبعضها ومطابقة أحياناً كثيرة حتى في الجمل والعبارات فكلاهما أطلقا اسم الجمهورية العربية السورية على الدولة، وهي جزء من الوطن العربي وشعبها جزء من الأمة العربية، ونظام الحكم جمهوري، ودين رئيس الدولة هو الإسلام، واللغة العربية هي اللغة الرسمية في البلاد، وكذلك بالنسبة للمبادئ الاقتصادية والاجتماعية.
بعد سقوط نظام البعث في أواخر عام 2024م، أعلن أحمد الشرع بعد أن عيّن نفسه رئيسًا مؤقتاً لإدارة سوريا الانتقالية عن تعليق العمل بدستور 2012م، وحظر حزب البعث وجميع أحزاب الجبهة الوطنية وحل كافة الأجهزة الأمنية التابعة لنظام البعث وحل مجلس الشعب، على أن يشكل لجنة تحضيرية تشريعية للبدء بسن دستور جديد للبلاد في مدة قد تصل إلى أربع سنوات.
إن المساعي الدستورية وكونها جزء من عملية بناء سورية لا بد أن يملكها ويقودها السوريون، كل المكونات والفئات ممثلة في اللجنة الدستورية بعيدة عن تدخلات القوى الأجنبية في اختيارهم، مثلما حدث في عملية اختيار الأعضاء المشاركة في اللجنة الدستورية بضغط من إيران وروسيا وتركيا وقتها، حيث وبحسب معهد الشرق الأوسط كانت متحيزة وبشدة ضد الكرد في سوريا.
تعددت أنواع الدساتير عبر التاريخ، دون أن يحقق أيٍ منها صلاحيات حقيقية للشعب في اختيار ممثليه الحقيقيين وتحديد مصيره. واختلفت الدساتير السورية على مر التاريخ تبعاً للسلطة الحاكمة، وما زال مصير سوريا مجهولاً حيث لا دستور ولا قانون يقيد سلطة وصلاحيات إدارة البلاد الحالية.
فهل سيعيدنا الدستور المرتقب إلى عهد شريعة حمورابي وقوانينه؟ أم سيعيدنا إلى عهد الانتداب مرة أخرى؟ أو سيصيغ دستوراً يمثل الأطياف السورية المتعددة ويحقق سلطة الشعب ويمثله؟ أم أنه سيبقى حبرًا على ورق، على غرار معظم الدساتير السابقة بما تحمله من إيجابيات وسلبيات، وإقحام الشعب في حالة جديدة من الضياع يطيل من ليل سوريا.