جولة الصحافة من قناة اليوم
خيارات إيران في جنوب سوريا
نشرت مجلة (ناشيونال إنترست)، مقالة رأيي للكاتب بلال صعب، عن اقتراح روسيا للتسوية في جنوب سوريا.
-هل ستكون حسابات طهران هي التي تقرر بشكل أساسي ما إذا كان الصراع بين إسرائيل وإيران سيتطور ليخرج على نطاق السيطرة؟
من الربيع العربي إلى ولادة “الدولة الإسلامية”، ومن اندلاع أربع حروب أهلية إلى أزمة الخليج، لم يكن الشرق الأوسط أكثر اضطراباً مما هو الآن في كل تاريخه الحديث. أما أن المنطقة أفلتت من حرب تقليدية كبيرة خلال هذه الفترة المتقلبة التي كانت فيها الدبلوماسية الأميركية غائبة فعلياً، فمعجزة حقيقية.
لكن هذه السلسلة من تعاقب الحظ السعيد ربما لا تدوم طويلاً. فمع هزيمة “الدولة الإسلامية” عسكرياً منذ العام الماضي، تحولت الحرب الأهلية السورية إلى ساحة معركة للقوى الإقليمية، رافعة من خطر نشوب حرب بين الدول. ويشكل جنوب سورية المكان الذي تبدو فيه الأمور أكثر قابلية للاشتعال. ويعمل الخصمان اللدودان، إيران وإسرائيل، في قرب كبير في ذلك الجزء من البلد، وهما عالقتان في أزمة عسكرية يمكن أن تتصاعد بسهولة.
تريد إسرائيل أن تظل إيران بعيدة عن زاويتها الشمالية الشرقية، وأن تصبح في النهاية خارج سورية كلها. ومن ناحية أخرى، ليست لدى إيران أي نية أو مصلحة في المغادرة، بعد أن قدمت الكثير من الدم والمال لإنقاذ نظام الأسد والسعي إلى تحقيق مجموعة من المصالح الاستراتيجية في سورية وعبر كامل المنطقة.
لإجبار طهران على التعاون، لجأت إسرائيل إلى القوة العسكرية، فقصفت أهدافاً لإيران وحزب الله في سورية بشكل متكرر. لكن إيران لم تتزحزح ولعقت جراحها بعد كل ضربة، بل إنها ردت بإطلاق النار مؤخراً على مواقع إسرائيلية في مرتفعات الجولات، وهو ما ردت عليه إسرائيل بدورها بإطلاق أكبر هجوم يُشن على سورية منذ حرب يوم الغفران في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1973.
في الآونة الأخيرة، تدخلت روسيا، أقوى لاعب في سورية، من خلال تقديم تسوية دبلوماسية لمنع الأمور من التطور والخروج على السيطرة: سوف تسمح إسرائيل لجيش الأسد بتولي السيطرة على الجنوب من دون إعاقة، في مقابل سحب إيران قواتها من المنطقة -حتى أن موسكو اقترحت أنه باستثناء أفراد الأمن التابعين لها، فإن على القوات الأجنبية الأخرى كافة، بما فيها إيران وحزب الله وتركيا والولايات المتحدة، أن تنسحب من سورية في وقت لاحق.
للمبادرة الروسية فوائد، بطبيعة الحال؛ حيث يمكنها أن توقف مؤقتاً الدينامية الأكثر قابلية للانفجار في الصراع السوري -بين إيران وإسرائيل. لكنها تفتقر على ما يبدو إلى مكون رئيسي واحد: أن تقبلها إيران.
ليس من الواضح على الإطلاق أن موسكو تشاورت مع طهران قبل التوصل المزعوم إلى تفاهم مع إسرائيل. ولكن، حتى بافتراض أنها فعلت، فإن من الصعب تخيل أن رد طهران كان إيجابياً. وتعرف إسرائيل أن روسيا لا تستطيع أن تفرض تفضيلاتها على إيران التي تنتشر وحداتها العسكرية ووكلاؤها على نطاق واسع وبأعداد كبيرة، وتشكل أقوى قوات موجودة على الأرض في سورية. وحتى لو تمكنت روسيا من إقناع إيران بسحب القوات التي تحت سيطرتها إلى مسافة 60 إلى 70 كيلومتراً إلى الشرق من خط وقف إطلاق النار في مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل، فإن إسرائيل ستظل متشككة إزاء قدرة روسيا على فرض الامتثال في حال حدث انتهاك إيراني أو تغير في النوايا. ففي نهاية المطاف، وبقدر ما تظل الوساطة الروسية قيّمة، فإن قرار طهران هو ما يهم أكثر ما يكون.
للتعامل مع الوضع الراهن، تمتلك إيران ثلاثة خيارات رئيسية، ولكل منها ميزاتها وعيوبه: الأول، تجاهُل الاقتراح الروسي والإبقاء على الوضع الراهن؛ والثاني، إزالة كل القوات التي تحت إمرتها في جنوب سورية، وإنما تعزيز تواجدها في الأماكن الأخرى؛ والثالث، تفكيك بنيتها التحتية العسكرية في سورية، وإنما نسخ نموذج حزب الله اللبناني، كما فعلت في العراق، عن طريق العمل من خلال وكلاء سوريين.
لا نعرف أياً من هذه الخيارات ستختاره إيران لأننا لا نملك أي فكرة عن حجم القيمة الاستراتيجية التي تضعها إيران لتواجدها العسكري في جنوب سورية. ومع أن طهران براغماتية بطبيعتها، فإن الأيديولوجيا تتغلب في بعض الأحيان على العقلانية في السياسة الخارجية الإيرانية، كما تشهد بذلك الأمثلة العديدة من السلوك الإيراني في حرب إيران-العراق. وربما يتصدر الصراع مع إسرائيل كل الاعتبارات الأخرى.
سوف يعتمد القرار الإيراني أيضاً على وجود (أو عدم وجود) حوافز إيجابية. فإذا لم يُعرض على إيران شيء في مقابل تعاونها، فإننا يجب أن نتوقع منها، منطقياً، أن تتمسك بموقفها. وإذا كان هناك، من ناحية أخرى، مجال للتفاوض، ربما على مصير القاعدة العسكرية الأميركية في التنف، فإن إيران ربما تكون أكثر احتمالاً لتقديم تنازلات.
يبدو أن إسرائيل قد أغلقت الباب أمام المساومات، بالنظر إلى الخطوط الحمراء الكثيرة التي وضعتها في سورية، والتي تمنع كلها إيران وحزب الله من التمتع بأي نوع من التواجد العسكري. ومن المؤكد أن هذا طلب إسرائيلي مشروع، بما أن إيران ليس لها شأن بنشر قوات وصواريخ بعيدة المدى خارج أراضيها الخاصة ومباشرة عند حدود إسرائيل الشمالية الشرقية، لكن هذه هي الحقائق على الأرض. وقد قلل رفض إسرائيل القبول بأهداف أكثر واقعية في سورية من آفاق التوصل إلى تسوية سلمية متفاوض عليها.
في غضون أيام قليلة، سوف يأمر الأسد لواءيه المدرعين الرابع والخامس باستعادة مدينة درعا وضواحيها، إلى جانب المنطقة المجاورة على حدود إسرائيل. وإذا عملت إيران ضد الرغبات الإسرائيلية والروسية ودمجت رجالها في الجيش السوري، فإن ذلك قد يعني أن طهران رفضت العرض الروسي عملياً. أما إذا ظلت بعيدة، فإن ذلك يشكل إشارة -ولو أنها ليست حاسمة- على أنها منفتحة على حل. ولكن، حتى عندئذٍ، سوف يظل الشيطان كامناً في التفاصيل، وسيظل على روسيا أن تري إسرائيل، والولايات المتحدة، والأردن أنها ليست راغبة فحسب، وإنما قادرة على تحويل مبادرتها الدبلوماسية إلى واقع.