بعد المقاومة الملحمية، التي أبدتها وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة، وأهالي كوباني شمال شرق سوريا، في عام 2014، ضد محاولات تنظيم داعش الإرهابي، السيطرةَ على المدينة وتكبُّد التنظيم وراعيه الإقليمي تركيا، الهزيمة والإحباط في تحصيل ممرٍ استراتيجيٍّ آخر، يغذي التنظيم داخل الأراضي السورية لوجستياً وعسكرياً عبر تركيا، اضطر النظام التركي إلى تسريع الكشف عن مخططاته الاحتلالية لمناطقَ من سوريا، ومحاولة تنفيذها بعد فشل داعش في خوضه حرباً بالوكالة عن تركيا، للسيطرة على مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
انتصار مقاومة كوباني، دفع بفصائلَ معارضةٍ سورية مسلحة، للاجتماع مع وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة، من أجل تحرير جميع المناطق الواقعة تحت سيطرة التنظيم الإرهابي، ومنح الفرصة لشعوب شمال وشرق سوريا، لإدارة نفسها ذاتياً، فأعلنت عن تشكيلها قوات سوريا الديمقراطية في عام 2015، وبدأت حملات التحرير التي حققت سلسلةَ انتصارات، كانت بمثابة صفعةٍ مضاعفةٍ للنظام التركي، الذي راهن مِراراً عبر خطاباته على سقوط كوباني، ليتفاجأ بانتصار مقاومتها وتشكُّل قسد.
عندما وصلت حملات التحرير بقيادة قسد إلى تخوم مدينة جرابلس الحدودية، حيث نقطة الاتصال المباشرة، بين النظام التركي وتنظيم داعش الإرهابي، أعاد رئيس النظام رجب أردوغان ترتيب أوراق نفوذه في ملف الأزمة السورية، واستعدَّ لعقد اتفاقاتٍ مع الحكومة السورية، عبر حليفها الروسي لتغيير خارطة توزيع القِوى، ليتنازل النظام التركي عن مناطقَ خاضعةٍ لسيطرة الفصائل الإرهابية التابعة له، لصالح الحكومة السورية، مقابل أن تُسهّل الأخيرةُ احتلال تركيا لجرابلس.
وجرابلس التي تبعد مسافةَ مئةٍ وخمسةٍ وعشرين كيلومتراً شمال شرق مدينة حلب، والتي تتبعها إدارياً، تتاخم الحدودَ الجنوبية لتركيا، وتمتاز بموقعها الاستراتيجي على الضفة اليمنى لنهر الفرات، وكونها مدينةً طاعنةً في القِدَم، إذ تعاقبت عليها الحضارات، فإن مواقعَ أثريةً كثيرة، وُشِمت على تضاريسها، وحتى عهدها الحديث تنوّعت فيها المكونات بين العرب والكُرد والتركمان والشركس والأرمن.
مع بدء الحَراك الشعبي السلمي في سوريا عام 2011، أعرب أهالي جرابلس بدورهم عن الرغبة في التغيير، لكن مع ظهور بوادر العسكرة، وتشكل ملامح الأزمة في سوريا، اقتَحمت مدينةَ جرابلس في شهر حزيران/يونيو عام 2013 مئاتُ العناصر الإرهابية، المنضوية تحت راية جبهة النصرة آنذاك ـ الذراع السوري لتنظيم القاعدة. والذي تدعمه تركيا، مما دفع بمئات الأسر للنزوح من جرابلس باتجاه مدينتَي منبج وكوباني، بسبب تصاعد حِدة الانتهاكات والجرائم بحق المدنيين، وإحباط مقاومتهم الشعبية.
في سبتمبر أيلول من عام 2013، سيطر تنظيم داعش الإرهابي على المدينة، وبدءًا من صيف عام 2016 أصبحت المنطقةُ الممتدةُ من معبر الراعي الحدودي، إلى بلدة جرابلس، هي آخرُ منطقةٍ يسيطر عليها تنظيم داعش الإرهابي، على طول الحدود الشمالية السورية.
انتهى رهان تركيا على نجاح داعش في تنفيذ مخططاتها بسوريا، مع إعلان المجلس العسكري لمنبج، المنضوي تحت راية قوات سوريا الديمقراطية، تحريرَ كامل منطقة منبج من داعش، بتاريخ الخامس عشر من آب أغسطس، عام 2016، والذي تزامن مع إعلان قوات مجلس جرابلس العسكري، المشكّل حديثًا، استعداداته لتحرير جرابلس من داعش.
وما إن أعلن عبد الستار الجادر، وهو أحد أبناء جرابلس، عن تشكيل المجلس العسكري لجرابلس، والذي ضم كتيبةَ فرات جرابلس الجوادرة، وكتيبةَ أحرار جرابلس، وكتائب صقور جرابلس، حتى اغتِيل على يد عملاءَ سريين لاستخبارات النظام التركي، بحسب البيان الذي أصدره المجلس عقب الواقعة.
تسع سنوات ومدينة #جرابلس السورية تعاني تحت وطأة نير الاحتلال التركي وفصــ ــائله الإرهــ ـــابية#قناة_اليوم #ملف_خاص pic.twitter.com/84GivMxZ9H
— قناة اليوم (@alyaum_news) August 24, 2024
في غضون ذلك، أعلنت تركيا عزمَها دخول الأراضي السورية عسكرياً، متذرعةً باستشعارها بالخطر الأمني على بلدها من داعش الذي ترعاه، فأقدمت على احتلال جرابلس، معلنةً محاولة احتلالها للأراضي السورية بغزوٍ عسكري، أطلقت عليه اسم عملية “درع الفرات”، وحاولت تصديرها للرأي العام على أنها عمليةٌ أمنية، دون الكشف عن كواليسها وفحواها الخطير على أهالي المنطقة، ومستقبل حل الأزمة السورية.
مسرحيةُ المعركة التي لم تستغرق سوى أقلَّ من نصف يومٍ واحد، بين الاحتلال التركي وعناصر داعش، حصلت بسهولةٍ من خلال عملية تبديل المواقع، بتراجع داعش نحو الباب واستقدام المدرعات التركية وقصفها البنى التحتية والمدنيين، لإضفاء أجواءِ معركةٍ حقيقية على حساب المدنيين العُزّل، معلنةً انتصاراً مزيفاً لمعركةٍ غير حقيقية، خرجت منها تركيا بطلةً وهمية، ورسمت أول موطئ قدمٍ لها في الأراضي السورية، نحو تنفيذها مشروعاً احتلاليًا تحت اسم منطقةٍ عازلة، كانت قد أعلنت عنها في وقتٍ سابقٍ من عام 2016، تمتد من جرابلس إلى إعزاز، وتأتي متماشيةً مع مساعي تركيا في تطبيق سياسة الميثاق الملي، باحتلالها المنطقةَ الممتدة من حلب إلى كركوك.
بالتأكيد لا تتمتع تركيا بالجرأة الكافية للإقدام على احتلال مدينةٍ سورية، دون حصولها على إشاراتِ موافقةٍ من القِوى الكُبرى ومحاصصتها الكعكةَ السورية، ولابد أن ذلك وقع في دهاليز اللقاءات السياسية، بينها وبين وفود القوى الكبرى والقوى الإقليمية، فباحتلالها جرابلس شكّلت تركيا بدايةَ الحصار الموسّع حول منطقة عفرين شمال غرب سوريا، وفصلها عن شمال شرق سوريا، لتليها مرحلةُ احتلال مدينة الباب في الثاني والعشرين من يوليو تموز 2017، والتي حصلت مرةً أخرى بتوافقٍ تركيٍّ روسي، جاء من خلال إخراج النظام التركي فصائله الإرهابية من حلب، في الثاني والعشرين من ديسمبر كانون الأول، عام 2016، لتعلن الحكومة السورية عقبها أن حلب خاليةٌ من الإرهاب.
وليظهر رأس النظام التركي نفسه، وريثاً للعثمانيين أمام الرأي العام التركي، واختار تاريخَ الرابع والعشرين من آب أغسطس 2016، الذي يوافق تاريخ معركة مرج دابق، الواقعة بالقرب من حلب عام ألفٍ وخمسمئةٍ وستة عشر، والتي اجتاحَ على إثرها العثمانيون منطقة الشرق الأوسط، بعد تغلبهم على المماليك.
بتاريخ ذلك اليوم في تمام الساعة الرابعة فجراً، بدأ الجيش التركي اجتياحاً عسكرياً لبلدة جرابلس، التي يسكنها ثلاثون ألف نسمة، باستقدامه القوات الخاصة للنظام التركي إلى الأراضي السورية أولاً، تلاها عبورُ نحو عشر دباباتٍ تركيةٍ مدعومةٍ بالطائرات، الحدودَ السورية، لتنتهي المعركة بعد اثنتي عشرة ساعةً فقط.
ولأن مشروع المحاصصة كبيرٌ ويحتاج جلساتٍ مطولة، فإن مظلاتٍ سياسيةً تدّعي رعايتها لحل الأزمة السورية سياسياً، بإدارةٍ تركيةٍ روسيةٍ إيرانية، كانت الوسيلةَ الأفضل للمتربصين، لإمساك مفاصل الحل والتحكم به، وإخراج المسار الأممي لحل الأزمة السورية خارج مِضمارِ التفعيل.
وفقاً للاتفاقات التي جرت بين الوفود الدبلوماسية لهذه الدول، تمكنت تركيا من الحصول على ضوءٍ أخضرَ باحتلال عفرين لاحقاً، في عام 2018، مما سهّل عليها أيضاً التمادي بوجه المجتمع الدولي، والإقدام على احتلال الشريط الحدودي السوري الشمالي، الواصل من مدينة سري كانيه/ رأس العين إلى تل أبيض/ كري سبي عام 2019.
مع كل الآثار المدمرة والتداعيات الخَطِرة للاحتلال التركي للأراضي السورية، تلك التي وثّقتها منظماتٌ إنسانيةٌ وحقوقية، مدعومة بالشهادات والصور والفيديو في بعض الأحيان، إلا أن المجتمع الدولي لم يأتِ بأي ردة فعلٍ من شأنها ردعُ قوات الاحتلال والفصائل الإرهابية، عن ارتكاب الانتهاكات المستمرة بحق المدنيين وممتلكاتهم، وانتهاج مخطط تغيير ديمغرافية المناطق المحتلة، والتعدي على آثارِ وصروحِ هذه المناطق، بما تحمله من تاريخٍ لهويات مكونات المنطقة الأصليين.