تركيا معنا، بما نحبه منها وما لا نحب
لو شاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن ينظر إلى مكانة بلاده في محيطها الإقليمي، فلن يحتاج إلى جهد ليعرف أنها قوة ذات شأن. بينما لا تملك وزنا موازيا في أوروبا، أو بين أقرانها من الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي.
وفي حين ظلت أوروبا تُعامل تركيا، بما ورثت من ريبة التاريخ، فإن الريبة في المنطقة جمعت الشيء والآخر. جمعت ما نحب وما لا نحب، في آن معا.
بَعيدُ التاريخ يشير الى سلطنة عثمانية حفظت الإسلام من التمدد الصفوي الفارسي. وقريبُه يشير إلى طغيان وتخلف إمبراطورية كانت توشك على الانهيار، ولكن من دون أن تنهار روابط الإسلام نفسها.
تتنافس بعض دول المنطقة، مثل العراق ومصر والسعودية، على مركز القطب الثالث، بين أنقرة وطهران. ولكن، في حين أن روابط الإسلام تفككت مع إيران، عندما جعلت من الفقه الصفوي دينا آخر، بخرافاته ومزاعمه وتشويهاته، لا علاقة له بالإسلام، فقد حافظ الإسلام التركي العريض على قرابته الوطيدة مع شعوب المنطقة.
انحرف المشروع الأردوغاني عن هذه القرابة في العقد الأول من سلطته، ابتداء من العام 2003، ليأخذه في مسار أيديولوجي متطرف أراد أن ينظر إلى المنطقة بعين “الإخوان المسلمين”. إلا أن العقد الثاني من هذه السلطة، كشف خواء هذه النظرة، وعجزها عن أن تؤسس لعلاقات طبيعية مع شعوب المنطقة.
الإسلام السياسي ذو الوجه العلماني في تركيا، لم يبدُ صالحا للحياة في المنطقة. من ناحية لأن “إسلامييه” كانوا بلا ميراث عقلاني، ومن ناحية أخرى، لأنهم بدلا من أن يجعلوا مشروعهم امتدادا لمؤسسة دولة، كما هو الحال في تركيا، فقد أرادوا للمشروع أن يكون هو الدولة.
تفهم من ذلك لماذا فشلوا في تونس ومصر. ولماذا حكم نظراؤهم في المغرب، لفترتين برلمانيتين من دون أن يكونوا سببا لتداعيات كارثية. فالدولة كانت أقوى من “الجماعة” هناك، وأكثر رسوخا وامتدادا في جذر ولادة الأمة، فلم يبق لجماعة “العدالة والتنمية” إلا أن تؤدي دورها في هذا السياق وتمضي بهدوء. بينما أراد الإخوان في تونس ومصر أن يؤسسوا دولة على نمطهم ومقاسهم، حتى أوشكوا أن يهدموا كل شيء.
لم يدرك أردوغان هذا الواقع إلا متأخرا. إلا أنه أدركه في النهاية.
ومثل كل إدراك آخر يقتفي أثر دوافعه، فإن شكوك الاتحاد الأوروبي وامتناعاته المديدة عن قبول عضوية تركيا، كانت دافعا أول. في ما شكلت الأزمة الاقتصادية دافعا ثانيا.
جانب من الأزمة الاقتصادية، عادت أسبابه إلى أن علاقات تركيا الاقتصادية بالمنطقة كانت هي التي تدهورت مع تفاقم “الأدلجة” السياسية في السلطة. تلك الأدلجة جعلت تركيا تتخلى عن أفضل سياسة تبنتها في العقد الأول من سلطة أردوغان، عندما اتبعت مبدأ “صفر مشاكل”.
تخلى أردوغان عن هذا المبدأ في علاقاته مع دول المنطقة، فتجمعت من حوله كل المشاكل، من انهيار علاقاته مع أوروبا، إلى انهيار قيمة الليرة التركية.
كان يكفي لمصر والسعودية والإمارات ألا تفعل شيئا، ليجد أردوغان نفسه يدور في فلك مغلق، قبل أن يكتشف أن إسلامه، لا إسلامه السياسي، ومكانة تركيا كقوة إقليمية، هما الجسر الذي يمكن للمصالح الاقتصادية ولعلاقات التضامن والتعاون أن تمشي عليه في الطريق إلينا.
في الذكرى المئوية لنشأة الجمهورية التركية، خاطب أردوغان مؤسسها كمال أتاتورك بالقول إن “الجمهورية التركية بأيد أمينة. نم مطمئنا”.
بدا أنه أصبح وريثا للعلمانية الأتاتوركية، لا خصما لها، وأن مشروعه الإسلامي “المعتدل” زاد اعتدالا، بجعله امتدادا لمؤسسة الدولة، لا نقيضا لها؛ أداة للبناء على ما بَنَتْ، لا مشروعا للهدم.
لم يعد أردوغان ينظر إلى نفسه على أنه “خليفة” عثماني جديد، حتى وإن لم تغرب الفكرة عن ذهنه كليا. صار يعرف أن ذلك الزمن قد ولّى، وأن المنطقة لن تقبله.
صار يعرف أيضا أن القطبية لم تعد تقتصر على تركيا وإيران وحدهما. فهناك أقطاب تقليدية، مثل مصر والسعودية، وجديدة، مثل الإمارات، لا يمكن تجاوزها، بل لا يمكن لتركيا أن تستنهض قواها من دونها.
جانب من المواقف الصادحة التي أعرب عنها أردوغان في مواجهة الجرائم الإسرائيلية ضد غزة، تجاوز دوافع الغزل المجرد مع شعوب المنطقة. سبق له أن جرب الغزل، وفشل. ولكنه بدا مخلصا وحارا، هذه المرة. فعل ذلك تعبيرا عن وضع جديد، هو أن تركيا عادت لتقف على جسر الروابط الأصيلة مع المنطقة. ولقد بدا أن أردوغان مستعدا أيضا للتضحية، ليس بعلاقات تركيا مع إسرائيل، فحسب، ولكن مع الغرب كله أيضا. والإشارات عن “مسؤولية الغرب” في المآسي التي يعانيها الفلسطينيون، ظلت توجه سبابتها إلى الولايات المتحدة حصرا.
يدرك أردوغان الآن، أن المجتمع الغربي، لا يستسيغ أن تكون تركيا قوة إقليمية أو دولية مؤثرة. كما يدرك أن حساباته خاسرة مع الولايات المتحدة وأوروبا، وإنهما كانا يتمنيان أن يُريهما ظهره في انتخابات مايو الماضي.
الدول العربية، وقواها الإقليمية الرئيسية، اختارت أن تقف على الحياد التام حيال تلك الانتخابات المفصلية. والسبب كان يتعلق بحقيقة أن تركيا تظل هي ذاتها القوة الإقليمية، كائنا مَنْ كان يحكمها، وأن مصالحها وروابطها مع دول المنطقة يمكن أن تُعقلن كل شيء في نهاية المطاف. وتاليا لتؤكد أن تركيا باقية معنا، بما نحبه منها وما لا نحب.
ندد أردوغان بالانتهاكات والجرائم الإسرائيلية، ليجد نفسه يمشي على جسر تلك الروابط، وليعيد تأكيد مكانة تركيا مع محيطها العربي، لا بإسلامها السياسي، بل بإسلامها وحده، وبتاريخ لا ريبة فيه.
هذا أمر لا تملك إيران أن تفعله. وهو مكانه لا يمكن أن تحظى بها، لأنها أخذت من دعمها لحماس والجهاد الإسلامي، سبيلا مماثلا لدعم إسلامها الطائفي والميليشياوي. فعلت ذلك، على حساب جسر الروابط، لا مشيا عليه.
الكاتب: علي الصراف
المصدر: العرب