مساء الجمعة الفائت تحولت كل الأنظار وكل وسائل الإعلام نحو روسيا، ليس لتغطية حربها المستمرة منذ أكثر من عام ضد أوكرانيا، بل لأن يفغيني بريغوجين قائد مجموعة فاغنر التي تخوض القتال إلى جانب الجيش الروسي في الحرب، أعلن أن قواته ستتجه نحو العاصمة موسكو للقضاء على وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، ورئيس الأركان الروسي فاليري غيراسيموف.
المفاجأة الأعظم بالنسبة للجميع ومنهم المتتبع للشأن الروسي على وجه الخصوص، هي أن فاغنر بقيادة بريغوجين، لطالما كانت الذراع التي استخدمتها روسيا في حروبها في أوكرانيا، وسوريا، وكذلك تواجدت فاغنر في ليبيا ومالي وغيرها من الدول الإفريقية.
مجموعة فاغنر المسلحة كان أول ظهور علني لها في حرب احتلال شبه جزيرة القرم عام 2014، وتضم في صفوفها بشكل أساسي، قدامى المحاربين إلى جانب تجنيد سجناء روس وعناصر مدنية روسية وأجنبية، على خلفية الخسائر الكبيرة في العناصر بحرب أوكرانيا.
بالعودة لأحداث الجمعة، فبعد تصريحات بريغوجين الصادمة، بدأت المؤسسات الرسمية الروسية بإطلاق التحذيرات تارة، والتهم تارة أخرى، ووصفت ما ينوى بريغوجين فعله بالتمرد، فيما وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالخيانة والشروع في تمرد مسلح وتوجيه طعنة في ظهر روسيا، وهو ما يستوجب سحقه بكل قوة.
جاء السبت، وتركت قوات فاغنر مواقعها في أوكرانيا، ودخلت مدينة روستوف جنوبي روسيا، وبحسب زعم بريغوجين فإن عناصره سيطرت على المنشآت العسكرية في المدينة دون إطلاق أي رصاصة، وأعلن توجهه نحو موسكو التي تبعد حوالي 1000 كيلومتر.
الأحداث المتسارعة جرت كسرعة تحرك قوات فاغنر على الطريق السريع الواصل بين روستوف وموسكو، إلى أن تخلى بريغوجين عن فكرة الوصول إلى العاصمة قبل 200 كيلومتر من تحقيق ذلك، وقرر إعادة مقاتليه إلى قواعدهم، معللاً قراره بأنه جاء حقناً للدماء.
قرار بريغوجين هذا جاء بعد قبوله وساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، والذي ضمن له إسقاط الدعوى الجنائية المرفوعة ضده، مع ضمان انتقاله إلى بيلاروسيا.
الوساطة البيلاروسية ضمنت كذلك إسقاط الدعوى القضائية ضد عناصر فاغنر الذين شاركوا بالتحرك العسكري، بسبب ما أسمته روسيا شجاعتهم في المعارك بأوكرانيا، بينما من لم يشارك منهم في التحرك العسكري فمنحوا عقوداً مع وزارة الدفاع الروسية.
إذا انتهى ما سمته موسكو تمرداً عسكرياً، والذي وصفه يفغيني بريغوجين بمسيرة نحو العدالة، دون خسائر كبيرة في الأرواح، وكذلك دون خسائر للمواقع التي كسبتها روسيا في حربها في أوكرانيا، التي حاولت استغلال الأحداث، لإحداث خرق على طول الجبهة لكن دون فائدة.
ما حدث الجمعة والسبت، طرح أسئلة كثيرة، عن حقيقة ما كان يبتغيه بريغوجين من تحركه هذا، فلا هو أسقط وزير الدفاع ورئيس الأركان اللذين وصفهما بأشنع الصفات كما أعلن، ولا هو سيبقى صاحب الحظوة السياسية الكبيرة الممنوحة له من قبل بوتين قبل هذا التاريخ.
التحرك الذي بدأه بريغوجين كان يبعد عن العاصمة حوالي 1000 كيلومتر، وبحسب محللين فإن من ينفذ انقلاباً عسكرياً لا يبدأه من أماكن بعيدة كل هذا البعد من المدن الكبيرة أو العاصمة أو مركز القرار في البلاد، فما بالك بدولة مثل روسيا، يتمركز القرار فيها ليس في مدينة بل في شخص واحد هو فلاديمير بوتين.
فيما تذهب تحليلات أخرى، بأن ما حصل في الأيام الماضية ما هو إلا تخطيط من بوتين نفسه، فهو تخلص من بريغوجين الذي تعاظم نفوذه بشكل قد يسبب له المشاكل فيما بعد، وربما بسبب هذا التحرك يتخلص من بعض الضباط الكبار في الجيش الذين يملكون الحظ الوفير في خلافته أو الانقلاب عليه في يوم من الأيام.
المؤكد مما جرى في روسيا، أن قبضة فلاديمير بوتين أصبحت أقوى وأقوى، لكن أجوبة الأحداث الأخيرة ستبقى مبهمة وغير معلومة إلى أمد ليس بالقريب، فروسيا معلوم عنها بأن الأسرار تبقى مكتومة فيها، كإرث قديم منذ أيام القياصرة.