باباجان وسيناريو نهاية عهد أردوغان

لم يأبه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، كثيراً باستقالة الرفاق القدامى من حزب العدالة والتنمية أو اعتكافهم في منازلهم دون تقديم استقالاتهم رسمياً، وكثيراً ما كان يقول إن مصير هؤلاء هو مزبلة التاريخ، وإن الأخير كفيل بجعلهم في طي النسيان، وحتى عندما استقال علي باباجان قبل أقل من عام، رد أردوغان منزعجاً بالقول: “هل تتذكرون اسماً واحداً من الأسماء التي استقالت من الحزب؟” دون أي احترام لهؤلاء الرفاق القدامى الذين أسسوا معه الحزب قبل نحو عقدين!.
باباجان، الذي كان بمثابة العقل الاقتصادي لحكومات العدالة والتنمية طوال الفترة الماضية، انعكف طوال الفترة الماضية على تأسيس حزبه الجديد (حزب الديمقراطية والتقدم)، فأجرى اتصالات ومحادثات ولقاءات مع مختلف الأوساط التركية، طارحاً مجموعة من العناوين السياسية التي تنسف في حقيقة الأمر بنية نظام أردوغان، ولعل من أهم هذه العناوين:
أولاً: ضرورة التخلي عن النظام الرئاسي الذي أعطى صلاحيات مطلقة لأردوغان في حكم البلاد بموجب الاستفتاء الذي جرى عام 2017.
وثانياً: العودة إلى النظام البرلماني ولو بصيغة معدلة بما يحقق التوازن بين مؤسسات الحكم في تركيا.
وثالثاً: العناوين التي يطرحها باباجان هو عدم انتماء رئيس الدولة إلى أي حزب سياسي، وهذه كانت قاعدة متبعة في تركيا منذ تأسيس جمهوريتها عام 1923، والاسثتناء الوحيد هو حال أردوغان الذي عدل الدستور ليرأس الدولة والحزب الحاكم معاً.
رابعاً: الاستمرار في خيار سياسة الانفتاح والارتباط بالغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي من خلال تحقيق إصلاحات اقتصادية وقانونية ودستورية وسياسية، تطلعاً إلى العضوية الأوروبية بعد أن ألحقت سياسة أردوغان الخارجية ضرراً كبيراً بعلاقات تركيا مع الغرب.
خامساً: يطلب الانفتاح على كافة الأوساط التركية من قوى سياسية وحزبية وتيارات اجتماعية، فضلاً عن القاعدة الأساسية لحزب العدالة والتنمية، حيث يقول باباجان إن “أردوغان انقلب على مبادىء الحزب والأهداف الأساسية التي تأسس من أجلها”.
ويدعو العنوان السادس إلى انتهاج مقاربة جديدة للقضية الكردية في الداخل التركي، من خلال اعتماد نهج الحوار والانفتاح، وقد كان الأمر لافتاً في رسالته قبل نحو شهر إلى قيادة حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للكرد خلال مؤتمر الأخير في أنقرة.
في حين يشدد العنوان السابع على التأكيد الدائم أن سلطة حكومة حزب العدالة والتنمية تكلست بفعل القمع والاستبداد والفساد، وعليه فإن لسان حاله يقول إن تركيا باتت بحاجة ماسة إلى القانون والحرية ومكافحة الفساد وتحرير القضاء من سلطة الحزب الحاكم.
هذه العناوين السياسية المهمة التي بلورها باباجان، تشير إلى قضية مهمة في الساحة التركية، وهي قضية معرفته الدقيقة بقواعد إدارة اللعبة السياسية في البلاد، فالرجل طرح نفسه بوصفه يمثل تيار اليمين الوسط في البلاد، إذ أنه لم يطرح نفسه (علمانياً) بالصيغة الأتاتوركية التقليدية في تركيا، كما لم يطرحه نفسه ممثلاً لأيديولوجية الإسلام السياسي، كما هو حال أردوغان وحزبه الحاكم رغم نكرانهما لذلك، ولعل منطلق باباجان في انتهاج الوسطية السياسية هو التسامح والتأسيس لحالة سياسية جديدة، بعد أن قسم أردوغان المجتمع التركي في كل الاتجاهات والمستويات، وجعل من قضية الهوية قضية خلافية مثيرة للانقسام والصراعات الداخلية.
وفي الخارج، يدرك باباجان أن أردوغان وضع تركيا في موقع حرج، إذ أن علاقات بلاده لا تزال متوترة مع الحليفة التاريخية، الولايات المتحدة، على خلفية توجه أردوغان نحو موسكو وشراء صفقات السلاح منها ولاسيما المنظومة الدفاعية الصاروخية (إس – 400)، وكذلك عقد اتفاقيات استراتيجية معها في مجال الطاقة، وفي الوقت نفسه، فان الشك هو سيد الموقف في علاقات تركيا بروسيا، بسبب الخلافات بشأن ملفات سوريا وليبيا وأوكرانيا، كما أن العلاقة مع أوروبا في أزمات متفاقمة لأسباب كثيرة، في مقدمتها قضية اللاجئين الذين حولهم أردوغان إلى ورقة ابتزاز دائمة للحصول على مزيد من الأموال وشراء مواقف سياسية، وعلى مستوى المنطقة وصلت سياسة أردوغان في سوريا وليبيا إلى طريق مسدود، وهي في خلافات مع مصر والسعودية والإمارات والبحرين بسبب دعم نظام أردوغان للجماعات الإرهابية ولاسيما الإخوان المسلمين، كما أنها تعيش في خوف دائم من ولادة دولة كردية في المنطقة رغم كل العدوان الذي مارسه أردوغان ضد الكرد في الداخل والخارج، كل ذلك وسط تعثر اقتصادي في الداخل وأزمة مالية تتفاقم يوماً بعد يوم، فيما يبقى المواطن التركي ضحية كل السياسات الخاطئة لأردوغان.
حزب العدالة يتفكك
قبل باباجان، أسس أحمد داود أوغلو حزب المستقبل من رحم حزب العدالة والتنمية الذي كان أوغلو بمثابة المنظّر الايديولوجي له، ليضرب بذلك الحاضنة الشعبية للحزب، ومع أن أوغلو لا يختلف كثيراً عن أردوغان، إلا أنه يحظى بمكانة خاصة في الأوساط الأيديولوجية للحزب، وهو ما يمنحه ميزة خاصة في صراعه مع أردوغان.
وقبل باباجان وأوغلو، انشق بدري يالجين عن حزب العدالة والتنمية، وأسس حزب الأناضول، ومعروف عن يالجين أنه كان يمثل وسط المال والأعمال في الحزب، كما أنه يمثل حالة الهوية الأناضولية التي تشكل العمق السكاني لحزب العدالة والتنمية، وفي ضوء هذه الأحزاب الجديدة التي ولدت من رحم العدالة والتنمية، فإن ثمة قناعة بأن الأخير يتجه نحو المزيد من التفكك والانحسار، خاصة وأن التقارير تشير إلى أن أكثر من مليون عضو استقالوا من الحزب خلال العام الماضي وحده، وأن جميع الرفاق القدماء من المؤسسين باتوا خارج الحزب بعد أن حوله أردوغان إلى حزب الشخص الواحد ومعه العائلة وبعض رجال المال والأعمال، ومع الاستطلاعات الجديدة التي تشير إلى تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية فإن ثمة توقعات تشير إلى أن هذه الأحزاب الجديدة ستأخذ ما بين /15/ و/30/ بالمئة من الحاضنة الشعبية لحزب العدالة والتنمية إذا ما أجريت انتخابات مبكرة في المرحلة المقبلة.
سيناريو الانتخابات المبكرة
ثمة توقعات كبيرة بأن أردوغان في ظل هذه التطورات التي تشهدها الساحة الداخلية التركية، فضلاً عن تداعيات سياسته الخارجية على الداخل، سيدعو إلى إجراء انتخابات مبكرة العام المقبل، وفي الأساس دعت أحزاب تركية عديدة، ولاسيما حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي إلى إجراء مثل هذه الانتخابات للانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة.
ومع تعاظم هذه الدعوات إلى انتخابات مبكرة، قد يضع أردوغان هذا السيناريو على الطاولة، لا تلبية لدعوات أحزاب المعارضة، وإنما لتشكيل مشهد حزبي جديد وخاصة على صعيد التحالفات، فأردوغان يدرك أن تحالفه مع زعيم حزب الحركة القومية المتطرف، دولت باهجلي، لم يعد مجدياً، وأن بروز أحزاب جديدة في الساحة السياسية التركية من رحم حزبه قد يشكل خطراً جدياً على مستقبل حكمه، لاسيما إذا نجح باباجان في عقد تحالفات مع كل من حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطية، وعليه لن يتردد أردوغان في التحرك لقطع الطريق أمام مثل هذه التحالفات وربما محاولة بناء تحالفات جديدة للبقاء في سدة المشهد السياسي التركي.
وانطلاقاً من أهمية التحالفات الحزبية في المرحلة المقبلة فإن موقف باباجان من القضية الكردية يبقى مهماً وحيوياً لنجاح مثل هذه التحالفات، واللافت حتى الآن في موقف باباجان من القضية الكردية مسألتان، أولاهما تأكيده على ضرورة حل هذه القضية من خلال الانفتاح والحوار والديمقراطية، وثانيهما تجديده الموقف التركي التقليدي القائل بمواصلة الحرب على حزب العمال الكردستاني بحجة مكافحة الإرهاب.
وبغض النظر إن كان باباجان مضطراً لتسويق مقولة مواصلة الحرب ضد الكردستاني بسبب تعقيدات بنية النظام السياسي التركي أو أن ذلك قناعته الحقيقية، فإن العناوين التي طرحها باباجان تشكل فرصة لإحياء الجهود السلمية بشأن إيجاد حل سياسي للقضية الكردية.
في الواقع، من الواضح أن المشهد التركي بات أمام استحقاقات داخلية كثيرة، ولعل العنوان الأساسي لهذه الاستحقاقات سيكون التغير السياسي الذي سيكون هدفه وضع نهاية لعهد أردوغان وحكمه الشمولي.