لا مكان للإنسانية في قواميس هؤلاء، الذين يتجردون منها ولا يمتّون لها بصلة، إلا من حيث الهيئة الخارجية، إذ يتخذون من الإنسان سلعةً رخيصة، يلبون بها أطماع جشعهم، التي لا تتوقف عند حدود، ولا تفرق بين رجلٍ أو امرأةٍ أو طفل صغير، فكلهم في تلك المفاهيم المريضة، بضاعة مزجاة تُرجى من ورائها المنفعة.
بهذه الذهنيات المريضة يترسخ الفساد في المجتمعات، الذي يتجلى بأخطر صوره عندما يصبح عابرا للحدود ويصبح الإنسان ذاته السلعة التي يحرص تجار الأزمات على قبض ثمنها منتزعين بذلك كرامة الإنسان وحريته، ليطرحوه في مستنقعات الذل والمهانة والتحقير.
ما إن تتجرد الإنسانية من مفاهيمها الصحيحة حتى تلجأ إلى الاحتكام إلى شريعة الغاب، إلا أن المفارقة تكمن في أن ذلك ليس من أجل البقاء إنما من أجل الفساد وتغليب المصالح الشخصية الضيقة وامتهان الإنسان وكرامته والنظر إليه على أنه سلعة تباع وتشترى إما قطعة كاملة أو أشلاء متفرقة.
الاتجار بالبشر ظاهرة خطيرة باتت تقض مضجع المجتمع الدولي، ولم تعد مقتصرة على مدينة أو بلد معين بل في كثير من الأحيان أصبحت عابرة للحدود من خلال شبكات إجرامية منظمة ومعقدة، تستخدم أساليبها الخاصة لاصطياد ضحاياها واستغلالهم بشكل لا إنساني بعد أن يتأكدوا من بيع ضمائرهم وإنسانيتهم.
ولتسليط الضوء على هذه الظاهرة والتشديد على ضرورة مكافحتها خصصت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الثلاثين من تموز يوليو من كل عام ليكون يوما عالميا لمكافحة الاتجار بالأشخاص.
وفي رسالة بمناسبة ذكرى اليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالبشر في 30 تموز يوليو 2024، حث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش المجتمع الدولي على التعبئة من أجل مكافحة الاتجار بالبشر واصفا إياه بجريمة مروعة تستهدف الأشخاص الأكثر ضعفا في المجتمع
غوتيرش أدان في رسالته، كون الأطفال يمثلون ثلث ضحايا الاتجار بالبشر ويعانون من انتهاكات لا توصف، على حد تعبيره، مضيفا أن الأطفال يتعرضون لأشكال متعددة من الاتجار بالبشر بما في ذلك العمل القسري والجريمة والتسول وإجبارهم على القيام بأنشطة إجرامية.
وفي السادس من تموز يوليو 2024 أصدرت المنظمة الدولية للهجرة بالشراكة مع مركز “فرانسوا- زافييه بانيو” للصحة وحقوق الإنسان في جامعة هارفارد، تقريرها السنوي عن حالات الاتجار الدولي، أوضحت فيه أن قاعدة بياناتها وثقت حوالي 69 ألف ضحية للاتجار بالبشر من 156 جنسية، تم الاتجار بهم في 186 دولة.
الاتجار بالأشخاص هو جريمة خطيرة، ضحاياها الآلاف من الرجال والنساء والأطفال ممن يقعون فريسة في أيدي المتاجرين سواء في بلدانهم أم خارجها. ويتأثر كل بلد في العالم من ظاهرة الاتجار بالبشر، سواء كان ذلك البلد هو المنشأ أو نقطة العبور أو المقصد للضحايا.
وتعرف اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية والبروتوكولات الملحقة بها الاتجار بالأشخاص بأشكاله المختلفة، والتي من ضمنها تجنيد الأشخاص أو نقلهم وتحويلهم أو إيواءهم بدافع الاستغلال أو حجزهم للأشخاص عن طريق التهديد أو استخدام القوة أو أي من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو الابتزاز أو إساءة استخدام السلطة أو استغلال مواقف الضعف أو إعطاء مبالغ مالية أو مزايا بدافع السيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال.
ويشمل الحد الأدنى من الاستغلال، استغلال الأشخاص في سائر أشكال الاستغلال الجنسي أو العمالة المجانية والسخرة أو العمل كخدم أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق، أو استعباد الأشخاص بهدف الاستخدام الجسماني ونزع الأعضاء.
ولعل الحروب تساهم في تنشيط حركة الاتجار بالبشر نظرا لتنحي القوانين والأنظمة الرقابية حول هذه المسألة جانبًا، وخير شاهد على ذلك ما شهدته مناطق سوريا والعراق خلال سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على مناطق واسعة من البلدين منذ عام 2014 .
وفي غضون ذلك أقرت الأمم المتحدة قبل سنوات بأن تنظيم داعش كان يبيع النساء كعبيد في بعض مناطق سوريا والعراق، ولا سيما النساء الإيزيديات اللواتي تم اختطافهن من قضاء سنجار في العراق، وذلك ما جعل أحد النشطاء الكرد ينظم حينها وقفة احتجاجية في العاصمة البريطانية لندن في تشرين الأول أكتوبر 2014 ومعه مجموعة من النساء المقيدات بسلاسل، مشيرا إلى أنه يعرضهن للبيع وفقا لتعاليم تنظيم داعش، إذ كان يهدف بذلك إلى كشف حجم المأساة التي تعرضت لها النساء المحتجزات في سوريا والعراق على يد التنظيم الإرهابي في ذلك الحين.
لا خلاف دولي على أن الاتجار بالبشر جريمة صارخة وانتهاك لحقوق الإنسان، سواء كان الضحية امرأة أو رجلاً أو طفلاً أو طفلة، ومن المعروف أن الاتجار بالجنس من أبرز أنواع الاتجار بالبشر، ووفق تقديرات منظمة العمل الدولية، فإن 98 في المئة من ضحايا هذا النوع من النساء والفتيات في مناطق متفرقة من العالم، وبحسب ما يأتي على الموقع الرسمي لـ”الإنتربول”، فإن الاتجار بالنساء بهدف استغلالهن جنسياً يشمل البلد المصدر أو بلد العبور أو بلد المقصد.
وبحسب الإنتربول الدولي فإن الاتجار بالبشر يسمح للشبكات الإجرامية بجني أرباح كبيرة لمجموعة متنوعة من الأنشطة غير المشروعة من دون مخاطرة، حيث تضطر الضحايا إلى تنفيذ مجموعة من الأنشطة غير القانونية، والتي بدورها تولد الإيرادات، وتشمل الأنشطة على سبيل المثال السرقة، أو زراعة المخدرات، أو التسول القسري، ويمكن أن يواجه الضحايا عقوبة قاسية إذا لم يؤدوا أداءً كافياً، كما أن لهم نسبة من الأرباح.
التقارير أكدت أن الأزمات العديدة التي تعصف بالعالم في جميع أنحائه بالإضافة إلى تشريد السكان باتت تخلق أرضا خصبة للمتاجرين بالبشر، حيث ذكرت مؤشرات على نشاط الاتجار بالبشر في كل من سوريا والصومال وجنوب السودان والسودان واليمن من بين عدة دول أخرى، مشيرة إلى وجود أدلة على تسخير الأطفال في العمل المسلح في تلك الدول.
وبحسب التقارير فإن الزواج القسري يمثل الشكل الآخر من أشكال العبودية الحديثة، مؤكدة أنه ينتشر بكثرة في المناطق العربية أكثر من أي مكان آخر في العالم بالنسبة لعدد السكان.
وما يزال الجدل مثارا بشأن سوق للفتيات المقبلات على الزواج في بلغاريا شرقي أوروبا يحمل اسم GYPSY WOMEN MARKET، وهو يقام خلال أربعة مواسم في العام، إذ تقوم فيه العائلات بتزيين الفتيات وعرضهن في ذلك السوق من أجل الحصول على زوج ثري.
ورغم عدم منطقية فكرة الاتجار بالنساء في القرن الواحد والعشرين إلا أنه في حقيقة الأمر لم تختف هذه الظاهرة بشكل تام علاوة على ما شهده العصر من التقدم العلمي والمواثيق الثقافية والاجتماعية والتعاقدات القانونية، فقد بات لها تسميات مختلفة.
إحصاءات لأشكال الاتجار بالبشر
أرقام مرعبة كشفت عنها الإحصاءات العالمية حول ضحايا الاتجار بالبشر، حيث بات يقدر عددهم في جميع أنحاء العالم بنحو 27.6 مليون شخص، وقد أشار مراقبون إلى أن الكثير من هؤلاء الضحايا لا يعلمون أساسا أنه يتم الاتجار بهم بسبب قلة الوعي حول هذه الظاهرة، معتقدين أن ما يتعرضون له هو مجرد ظروف عمل قاسية وصعبة، غير مدركين أن ما يحصل لهم يعد جريمة أيضًا.
بنحو 900 ألف عامل قدرت أعداد العمالة القسرية في البلدان العربية، وهو رقم منخفض لكنه يعتبر من المعدلات الأعلى عالمياً نسبة لعدد السكان، في حين يوجد أكثر من 15 مليون عامل قسري في مناطق آسيا والمحيط الهادئ ما يصل إلى نصف الأعداد الإجمالية حول العالم البالغة أكثر من 27 مليون عامل قسري، ويتبين من خلال هذه الأرقام أن العمل القسري هو الأعلى في الدول منخفضة الدخل مقابل البلدان ذات الدخل المرتفع، حيث يصل في الأولى إلى 6.3 لكل ألف شخص مقابل 4.4 لكل ألف.
تقرير أعدته منظمتا الهجرة والعمل العالميتين أوضح أن معدلات العمل القسري في الدول العربية وصلت إلى 5.3 حالة لكل ألف شخص، وذلك بناء على اعتبار الأمم المتحدة أن العمالة القسرية والزواج القسري هما شكل من أشكال العبودية الحديثة، مؤكدة أنهما ينتشران بنسبة كبيرة مقارنة بدول العالم، إذ أشارت أن ذلك يصل إلى حد الاتجار بالبشر في سوريا واليمن.
في المقابل بلغ في أوروبا وآسيا الوسطى 4.4 لكل ألف شخص، بينما بلغ المعدل في القارتين الأميركيتين وآسيا والمحيط الهادئ 3.5 لكل ألف شخص، وفي إفريقيا 2.9 لكل ألف شخص.
أما في سوريا فقد تم الكشف عن انتشار هذه الظاهرة بشكل مقلق حيث ذكر قسم الطب الشرعي في جامعة دمشق أن تجارة الأعضاء في سوريا قد انتشرت بكثرة، وقد وثق نحو عشرين ألف حالة بيع أعضاء منذ عام 2011 وحتى 2017أغلبها كلى وقرنيات عين وخاصة ممن هم دون سن العشرين.
مراقبون تحدثوا عن انتشار ظاهرة تجارة الأعضاء في مناطق سيطرة الحكومة السورية، مرجعين ذلك إلى تدهور الوضع المعيشي والاقتصادي، ورغبة العديد من الشباب ببيع أعضائهم مقابل مبالغ مالية كبيرة تساعدهم على دفع تكاليف الهجرة لمغادرة البلاد والهروب من الواقع الصعب، وذلك في ظل وقوع أكثر من تسعين في المئة من السكان تحت خط الفقر بحسب تقديرات أممية.