الغزو التركي لشمال قبرص (ملف خاص)
قبرص.. تلك الجزيرة الهادئة الواقعة شرق البحر المتوسط، وتملك من التاريخ الإنساني والحضاري الكثير، تبلغ مساحتُها أكثرَ من 9 آلاف كم مربع. نالت استقلالها عن بريطانيا عام 1960، وأُعلنت جمهوريةً مستقلةً ذات سيادة، على خلفية الاتفاقات الموقعة في كلٍّ من لندن وزيورخ، والتي وضعت نهايةً للكفاح الوطني المسلح ضد الاستعمار البريطاني، الذي استمر نحو 5 سنوات، لكنَّ الشعب القبرصي لم ينعم كثيراً بحصد ثمار تضحياته، وكفاحه في سبيل الاستقلال، لأن محتلاً آخرَ غزا الجزيرة، التي تتميز بهويةٍ وطابعٍ يوناني، غالبٍ على مناحي الحياة فيها كافة.
بعض البنود التي تضمنتها الاتفاقات الموقعة في لندن وزيورخ، أدت وبمرور الوقت إلى أزمةٍ دستورية، وصراعاتٍ داخل قبرص، والتي وجدت من خلالها تركيا منفذاً وحجةً للتدخل في شؤونها، حيث عمدت أنقرة إلى رفض جميع الجهود الرامية إلى تعديل الدستور القبرصي، وسعت إلى تكريس سياسةٍ طويلةِ المدى لشطر الجزيرة وتجزئتها.
التدخل التركي أدى إلى اندلاع مصادماتٍ طائفية، بين عامَي 1963 و1964، أُتبعت برسم ما يسمّى الخط الأخضر، الذي قسم عاصمة الجزيرة “نيقوسيا”. ونشط في هذا الوقت زعماءُ الحركة الانفصالية والمتطرفين من القبارصة الأتراك، دعماً للمخطط التركي الاستيطاني التوسعي، لتفسد تركيا بذلك صفو الوئام الذي طالما سعى إليه سكان الجزيرة هناك.
تركيا المُخضَّبُ تاريخها بالدماء، سعت منذ خمسينات القرن العشرين، للدخول على خط الصراع على الجزيرة وثرواتها، لمنع أثينا من أن تكون الوارث الوحيد للبريطانيين في قبرص، وأسست ودعمت من أجل هذا الهدف مجموعاتٍ مسلحةً مواليةً لأنقرة حتى العام 1974.
وقد أدى الانقلاب الذي قامت به جماعاتٌ مسلحةٌ مدفوعة من قبل نظام الحكم العسكري في اليونان، ضد الحكومة القبرصية الشرعية، في الخامس عشر من شهر تموز / يوليو عام 1974، إلى استغلال تركيا الفرصةَ التي انتظرتها كثيراً، فقامت في العشرين من الشهر ذاته، بغزو جزيرة قبرص بقواتها العسكرية، منتهكةً بذلك ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، والمبادئ الأساسية التي تحكم علاقات الدول بين بعضها.
الـ20 من تموز يوليو عام 1974 كان يوماً مروّعاً بامتياز على الشعب القبرصي، حيث أصدر رئيس الوزراء التركي آنذاك بولانت أجاويد، أمراً لقواته المسلحة لغزو الجزيرة، وفعلياً عاث الجيش التركي فساداً، ووصل إلى “نيقوسيا” في منتصف شهر آب /أغسطس من ذات العام، مخلفاً وراءه أكثرَ من 4500 شخصٍ ما بين قتيلٍ ومفقود، فضلاً عن ارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعب القبرصي، بأطيافه العِرقية والدينية كافة.
ونتيجةً لذلك اليوم المشؤوم، أصبح 36 بالمئة من إجمالي مساحة الجزيرة، واقع تحت الاحتلال التركي، وهو القسم الشمالي منها، والذي يتحكم بأكثر من 70 بالمئة من النشاط الاقتصادي في البلاد، حيث أسس هناك جمهوريةُ لا تعترف بها إلا أنقرة وحدها، في مثالٍ واضحٍ على انتهاك السيادة القبرصية، ومازال ذلك الجزء يخضع لسيطرة جيش النظام التركي حتى الآن.
كما وتم إجبارُ مئات الآلاف من الأشخاص على النزوح والفرار من بيوتهم وأراضيهم شمالي قبرص، ليصبحوا لاجئين في أماكنَ أخرى في وطنهم، مع العلم أن هؤلاء يمثلون أكثرَ من ثُلث السكان هناك، وفي المقابل عمد النظام التركي إلى توسيع سياسة الفصل العنصري، وإجبار القبارصة الأتراك على الانتقال للعيش في المناطق التي احتلها من الجزيرة.
وقد نتج عن هذا الاجتياح العسكري أيضاً، أن أصبح نحو 1500 شخصٍ من سكان الجزيرة، في عداد المفقودين، وقد فشلت جميع الجهود في معرفة مصيرهم، خاصةً بعد أن رفضت تركيا التعاون مع الهيئات المعنية، المتعلقة في هذا الشأن الإنساني.
وقام الأتراك برسم خطٍّ فاصلٍ شَطَر البلاد إلى جزئين، أُطلق عليه الخط الأخضر الذي قسم قبرص منذ العام 1974.
وبدأت بعد ذلك مباشرةً المعاناةُ الانسانية، حيث نُهبت الممتلكات، وأصبح اقتصاد البلاد على حافة الانهيار. وكانت هناك حاجةٌ مُلحةٌ لإيجاد أماكنَ لإيواء اللاجئين، وإيجاد عملٍ وتقديم المساعدات الإنسانية اللازمة لهم.
ولتحافظ على سياستها الاستيطانية، أبقت أنقرة على قوةٍ عسكريةٍ كبيرة، مجهزةٍ بأحدث المعدات، قوامُها أكثرُ من 43 ألفَ جنديّ، وذلك لمواصلة احتلال الجزء الشمالي من جزيرة قبرص. ومنذ احتلالها لهذا الجزء بلغ عددُ الذين جلبتهم تركيا للإقامة بصورةٍ غير شرعية، أكثرَ من 160 ألفَ شخص، سعياً لتغيير ديموغرافية البلاد، وتركيبتها السكانية، في تحدٍّ صارخٍ للقوانين الدولية ومبادئ الشرعية.
وكان للهجرة الجماعية التي يقوم بها القبارصة الأتراك من المناطق المحتلة في الجزيرة، بسبب الظروف التي فُرضت عليهم من قبل الاحتلال التركي، أثرٌ واضحٌ في ازدياد عدد الجنود الأتراك، والمستعمرين الجدد، بصورةٍ كبيرة، الأمرُ الذي فاق عدد السكان الأصليين الذين بقوا هناك.
وفي عام 1983 واصلت القيادات القبرصية التركية، المتعاونة مع أنقرة، تكريس سياسة الوضع الراهن، وبقاء الحال على ما هو عليه، بإعلانها الجزءَ المحتل “دولةً مستقلة” مما دفع مجلس الأمن الدولي، لشجب هذا القرار الانفصالي وإدانته والدعوة إلى سحب الإعلان فوراً، ومن المثير للسخرية، أن تركيا كانت الدولةَ الوحيدةَ بين جميع دول العالم، التي أسرعت بالاعتراف بهذه الدولة المزعومة.
وقام النظام غير الشرعي في الجزء الشمالي المحتل، باتباع سياسة “التتريك”، في الوقت الذي اتخذت فيه “أنقرة” خطواتٍ حثيثةً لتدمير التراث الثقافي والحضاري لقبرص، الممتد من آلاف السنين.
وتطبيقاً لهذه السياسة، فقد تم استبدال الأسماء اليونانية بأسماءٍ تركية، وتدمير أماكن العبادة والمواقع الأثرية والتاريخية، ولم تسلم المقابر اليونانية حديثها وقديمها من الهدم والتدمير، لمحو الهوية اليونانية تماماً، وانتُهكت المقدسات ونُهبت القطع والأعمال الفنية والأثرية، التي لا تقدر بثمن، والتي تعد جزءاً هاماً من التراث الإنساني، وتم تهريب الكثير منها إلى خارج البلاد.
وبالرغم من المناشدات العديدة، وأصوات الاحتجاج من قبل الحكومة القبرصية، واصل النظام الحاكم في الجزء الشمالي، المتعاون مع أنقرة، سياسة التدمير تلك حتى اليوم.
وما زاد من حجم الفاجعة، استمرارُ السلطات بالجزء المحتل من قبرص، بسياستها الرامية لتهجير أعدادٍ أكبرَ من القبارصة اليونانيين، من ديارهم في القرى التي احتلتها تركيا. فقد أصبح الآن عدد القبارصة اليونانيين، الذين رفضوا مغادرة قراهم وترك بيوتهم، أقلَّ بكثيرٍ من 450 شخصاً، معظمهم من كبار السن الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً، مقابل أكثرَ من 20 ألف شخصٍ تمسكوا بالإقامة في ديارهم عام 1974.
وفيما يتعلق بالردود الدولية في هذا الشأن، فقد طالبت الأمم المتحدة من خلال العديد من قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي، باحترام استقلال ووحدة وسلامة أراضي جمهورية قبرص، وبعودة اللاجئين إلى أراضيهم، وانسحاب القوات الأجنبية المتمثلة بجيش النظام التركي من الجزيرة، إلّا أن جميع القرارات تم تجاهُلُها بشكلٍ استفزازيٍّ من قبل أنقرة.
الجانب القبرصي اليوناني طالب أيضاً، مراراً وتكراراً، على مدار السنين، باحترام القرارات الأممية وعودة “فاماغوستا”، المدينة الأهم في الجزء الشمالي من الجزيرة إلى سكانها الشرعيين، كما قدم العديدَ من المقترحات لهذا الغرض، إلا أن التعنُّت من الجانب التركي أعاق جميع الجهود.
وظل الوحدويون في جانبَي الجزيرة، يطالبون بتسوية القضية القبرصية حتى أيار/مايو 2008، حيث توصل الطرفان وتحت إشراف الأمم المتحدة إلى تفاهم، كان من أهم نقاطه الاتفاقُ على دولةٍ فدراليةٍ بطرفين مؤسسين متساويين، كما اتفقا في الـ 3 من أيلول /سبتمبر من العام نفسه، على أن يجري طرحُ أي اتفاقٍ يتم التوصل إليه، على استفتاءٍ شعبيٍّ عام، لكن وعلى مدى الأعوام من 2011 وحتى 2014، لم تتوصل جولات المفاوضات والمحادثات بين الطرفين لحلٍّ توافقي، بسبب تدخل أجنداتٍ خفيةٍ تابعةٍ لأنقرة في الجزء الشمالي من الجزيرة.
وفي الـ15 من أيار/ مايو 2015، جرت جولةُ محادثاتٍ أعلن خلالها الطرفان، الانتقالَ إلى مرحلةٍ جديدةٍ لإرساء الأمن والمساواة في الجزيرة، لكن جلسات الجولة الأخيرة من المفاوضات المنظمة في سويسرا، خلال تشرين الثاني / نوفمبر 2016 التي وصلت إلى طريقٍ مسدود، جعلت مسألة الجزيرة تدور ضمن حلقةٍ مفرغة، ومتاهةٍ مستمرة.
ومن الخمسينات إلى السبعينات من القرن الماضي، وصولاً إلى وقتنا الحالي، لم يطرأ أي تغييرٍ على السياسات أو الأطماع التركية، تجاه جيرانها وأبرزها اليونان وقبرص، بل تتمادى تركيا في تطوير تلك المطامع إلى نطاقاتٍ أخرى، من بينها ثروات الطاقة في منطقة شرق المتوسط، لكلا البلدين، والتنقيب في المياه الاقتصادية الخالصة لأثينا ونيقوسيا، ما أثار ويثير المزيدَ من ردود الفعل الدولية والأوربية، المستنكرة والمستهجنة لمثل تلك السلوكات، وما لها من عواقبَ وخيمةٍ على الأمن والاستقرار في المنطقة برمتها.
ويرى مراقبون أن سياسة أنقرة تجاه القضية القبرصية، لم تأخذ الهوية الوطنية للجزيرة بعين الاعتبار، ولا مصلحةَ القبارصة الأتراك أنفسهم، وإنما هدفت لحماية أجنداتها الإقليمية أولاً وأخيراً، غيرَ مدركةٍ بأن سياسةً كهذه، ستلحق ضرراً بالغاً بالقبارصة الأتراك قبل غيرهم، إذ إنها تقضي على آمال توحيد الجزيرة، فضلاً عن أنها وضعت هذه الجمهورية التي لا يعترف بها أحد أمامَ مخاطرَ هائلة، وبالمحصلة لن تلقى قضية الجزيرة، إلا مزيداً من التوتر في شرقي المتوسط، والتصعيد مع أوروبا وحتى الولايات المتحدة.