الرقة في وشاحها الاسود
كانت الرقة أول محافظة سورية سقطت بيد المعارضة بعد معارك شرسة مع قوات النظام، وخرجت عن سيطرة قوات النظام بشكل كامل في آذار 2013، فأراد اهلها من مدنيين وعسكريين أن تكون مدينتهم نموذجاً لسوريا المستقبل، حيث شاركت كتائب عديدة في السيطرة على الرقة من النظام، منها “أحرار الشام _جبهة النصرة – الناصر صلاح الدين – لواء ثوار الرقة – لواء أويس القرني – كتيبة الحذيفة بن اليمان – لواء المنتصر بالله –كتائب الفاروق – ولواء أمناء الرقة ـ لواء أحفاد الرسول ـ جبهة الوحدة والتحرير الإسلامية ـ جبهة الأصالة والتنمية ـ كتائب الإيمان وأحرار جبل الزاوية”، وحين كانت الفصائل المسلحة مشغولة باستكمال المعارك على حدود المحافظة، سارعت جبهة النصرة إلى احتلال مبنى المحافظة واتخاذه كمقر رسمي لها منذ اليوم الثاني من انهيار النظام هناك، ولم يبقى في المدينة أحد من المسلحين, مما أحدث فراغاً هائلاً في أجهزة الدولة ومؤسساتها، خاصةً على صعيد الخدمات، فعمد الناشطون إلى ملء الفراغ, حيث تشكلت مجموعة من “التجمعات الثورية”, كان منها “حقنا” و “تجمع شباب الرقة الحر”, التي أخذت على عاتقها مهمة تنظيف المدينة، وإعادة تأهيلها لتكون نموذجا لسوريا “الحرّة”.
قبل السيطرة على الرقة من النظام, كانت مدينة تل ابيض خارج السيطرة وفيها هيئة شرعية، قائدها “اسماعيل كجوان”, الذي اصدر فتوى “حرم فيها دخول الفصائل المسلحة الى الرقة, بسبب الكثافة السكانية التي قطنت هناك على اثر نزوح الاهالي من محافظات الداخل والمناطق الساخنة، وبعد اصداره الفتوى بأيام وجد مقتولا وجثة هامدة على مفرق “عين العاروس” في ريف تل ابيض، وبعد مقتله بشهر اقتحمت الفصائل المسلحة الرقة.
وظهر في الرقة أمرين: الأول تمثل في “جبهة النصرة” التي استولت على مبنى المحافظة تاركةً ساحات القتال إلا نادرا، متبعةً سياسة ناعمة تقوم على تخديم المناطق والتغلغل بين الناس لكسب ود المواطنين، والثاني: وجود مجلسين محليين في المدينة أحدهما : منتخب من قبل اشخاص مدنيين بقيادة “سعد فهد الشويش”، والآخر تم تشكيله من قبل الائتلاف الوطني برئاسة “عبدلله الخليل”، حيث أعلن عنه في مدينة أورفا التركية بتاريخ 6/12/2013، وأحدث تشكيله استنكاراً بين آهالي الرقة لضبابيته، حيث أنَّ 90% من أعضائه يعملون في السر، وبرزت الخلافات على طبيعة عمل المجلس, بين من يريده خدمي “المنتخبون” وبين من يريد ه سياسي “جماعة الائتلاف”، مع وجود ايادي خفية غريبة هدفها الهيمنة والسيطرة, وتكفّير بعض مكونات الشعب السوري، وجرت محاولات كثيرة لتوحيد المجلسين إلا أنها باءت بالفشل، وبعد كل اجتماع كان يجري التأجيل، كانت “جبهة النصرة” تهمين أكثر وأكثر على المقرات والمجتمع .
ظهور داعش في الرقة
كان ظهور داعش الاول بتاريخ 20/5/2013، بعد رفض “أبو محمد الجولاني” امير “جبهة النصرة”، إعلان ولائه للقاعدة، فقامت باختراق صفوف “المعارضة” السورية، واقتحام المناطق التي تم السيطرة عليها، فأوى إليها الأغلبية التي عانت على يد الفصائل المسلحة، لأنها رفعت شعار الإسلام وإنشاء دولة للمسلمين في العراق والشام، وكانت مدينة الطبقة اول مقرٍ لتنظيم داعش، حيث كان عدد عناصره لا يتجاوز الخمسة اشخاص براتب شهري يقدر ب 200الف ليرة سورية، واستغلوا الفقر وحاجة الناس، فأغروهم بالمال للانضمام اليهم، وكانوا اكثر ما يستقبلون من الاطفال ليتمكنوا من غسل ادمغتهم، إلى أن اصبحوا أهل نفوذ ولهم مراكز في جميع مناطق الرقة، مع العلم انهم لم يشاركوا في القتال ضد النظام في الرقة وضواحيها, لأن النظام كان قد انهار في مدينة الرقة بتاريخ 4/3/2013.
في مدينة تل أبيض في شهر12 عام 2013، قام تنظيم داعش بمداهمة مركز “حركة احرار الشام” ، وتم أسر “ابو ريان “أمير “الحركة” في تل أبيض، والمسؤول عن معبر تل أبيض الحدودي بين سوريا وتركيا، واقتادوه الى جهة مجهولة، وهو من مدينة مسكنة واسمه “حسين سليمان” طبيب اطفال وخريج جامعة حلب، من مواليد 1985، وبتاريخ 1/1/2014 تم تسليمه لحركة أحرار الشام جثة هامدةً، وعليه آثار التعذيب مكبل اليدين مقطوعةً احدى اذنيه، تم تسليمه في صفقة تبادل اسرى بين الطرفين، وبررت داعش بأنَّ اغتياله تم عن طريق الخطأ، وعلى اثر ذلك خرجت مظاهرات في مدينة مسكنة مسقط راس “ابو ريان”, تطالب بخروج داعش من المنطقة، ومحاسبة المسؤولين عن مقتله، وتسليم القاتلين لأهله، ولكن داعش جابهت ذلك بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وحصلت خلافات وانشقاقات من الطرفين “داعش و احرار الشام”، تم على اثرها بعد يومين استيلاء داعش على مدينة مسكنة بالكامل، وطرد جميع الفصائل المسلحة وجبهة النصرة منها، ثم تتالت الاحداث بعدها وتطورت الاشتباكات ووصلت الى مدينة الطبقة، وبدأت شرارة الاشتباكات بخلافاتٍ شخصية, وحساباتٍ عشائرية بين الافراد، ليقوم احد عناصر “الجيش الحر” وهو “ابو طلال” قائد “لواء العزة بالله”، بقتل احد عناصر داعش امام مشفى الطبقة الوطني، فردت داعش وقتلت شقيقه المصاب داخل مشفى الرقة الوطني، فاندلعت الاشتباكات بين داعش وجميع فصائل “الجيش الحر” في مدينة الطبقة، وأول قتيل بين الطرفين في9/1/2014، كان شخص مدني صاحب عربة يبيع عليها الفول واسمه “غيصوب بكور” والذي قتله عناصر “الحر”، في اليوم الاول كانت الكفة لصالح كتائب “احرار الشام” وباقي الفصائل مثل “احرار الطبقة – كتيبة البراء- كتيبة محمد ابن عبدالله”، ولم تشارك “جبهة النصرة” في معركة الطبقة، وفي اليوم الثاني انقلب “النصر” إلى هزيمة لصالح “داعش”، وفي اليوم الثالث انسحبت جميع الفصائل وكانت الغلبة لداعش.
بعد الطبقة سلمت فصائل “الجيش الحر” بلدة المنصورة لداعش دون اي مقاومة، لتنتقل الاشتباكات الى مدينة الرقة، وتواصلت ثلاث ايام لتنتهي لصالح داعش، حيث قضت داعش على الفصائل المسلحة، وانسحبت الفصائل التي رفضت “مبايعة البغدادي”، وأهمها كان فصيل “احرار الرقة” بقيادة ابو سيف الولاداوي “، ولواء “ثوار الرقة” بقيادة ابو عيسى.
بعد الاقتتال انشق عدد كبير من عناصر “جبهة النصرة” والتحقوا بداعش, تحت قيادة” محمد يوسف عثمان العثامنة “أبو عبدالعزيز القطري”, وهو فلسطيني من مواليد العراق، ليشكل فصيل اسمه “سرايا القدس” ليتحول بعد ذلك الى “جند الاقصى”, وهذا الفصيل يحمل نفس فكر داعش، وبظروفٍ غامضة اختفى قائده، وبعد ثلاث شهور من اختفائه, وجدت جثتهُ في بئر ماء بمنطقة دير سنبل في جبل الزاوية، ليستلم قيادة الفصيل “عمار الجعبور ابو مصعب” الذي بايع داعش على الفور.
من اهم سجون داعش, هي مبنى المحافظة وإدارة المركبات والمرأب في مدينة الرقة، بالإضافة إلى سد البعث، ومنشأة نفطية في العكيرشي، وبعد ان استولت داعش على الرقة وطردت منها فصائل “الجيش الحر”، بقي مطار الطبقة العسكري والفرقة 17 واللواء 93ضمن سيطرة النظام، وفي الشهر الثامن من عام 2014 اقتحمت داعش مطار الطبقة، واستولت عليه بقيادة المدعو “ابو عمر الشيشاني “، وحسب شهود عيان قتل اكثر من 700 بين عسكري وضابط، لتقوم بعدها داعش باقتحام الفرقة 17 واللواء 93، لتكون الرقة اول محافظة سورية بين يدي داعش، لتشكل بعدها الرقة العاصمة الروحية والعملية لداعش، وأول عملية اعدام قامت بها داعش في الرقة كانت في شهر أيار من عام 2014، وكان الاعدام بمثابة رسالة واضحة للمجتمع المدني أولا ولأهالي الرقة ثانية، بعدها عاد الحراك المدني السري بعد فشل المظاهرات، ودعا الناشطون إلى مظاهرات سلمية ترفض العنف والقتل واللثام والاعتقال التعسفي والخطف.
حياة الناس اليومية مع داعش
بدأت “داعش” تطبيق قوانينها بوصفها “دولة”، من خلال فرض الاتاوات على المحلات التجارية واحتكار المشتقات النفطية وبيعها بثمن بخس، ومضايقات فيما يخص المرأة “لباسها – حجابها”، والتدخل بالمعاهد التعليمية الخاصة من أجل الفصل بين الذكور والإناث، مع فرض غرامة لمن لا يلتزم بذلك في خطوة أولى، وإغلاق المعاهد واعتقال القائمين عليه بتهمة “الكفر والزندقة”.
ويقول أحد الأهالي بسخرية “أعتقد أن داعش قامت بتجميع كل الإشاعات التي قيلت عنهم، ويقومون بتنفيذها حرفياً، هؤلاء لا يملكون أي مشروع أو فكر، فقط يقومون بكل ما بشأنه زيادة الرعب حولهم وبكل ما يبعد الناس عنهم إنهم صاروا كالطاعون، وهذا غريب أمام ما يدعونه من بناء دولة وقانون”.
لم يتغير الشيء الكثير من حال الرقة عن يوم ما كانت بيد النظام، فحواجز الدواعش حلت محل سابقاتها من الشبيحة، الكلمة محسوبة والقلق والخوف، وإمكانية التعرض للاعتقال والقتل وعشوائية الإجراءات، فأهل الرقة يحفظون مدينتهم عن ظهر قلب، يخبرونك عن الشوارع التي لك أن تمر بها، والأفضل ألا تقترب منها فهي مليئة بهم، والأهالي تراهم يمشون بحذر مسرعين، لا يكادون يغادرون بيوتهم حتى يسارعون بالعودة إليها.
يمضي عناصر داعش أيامهم في الرقة ما بين مقاهي الانترنت والمطاعم، بالإضافة إلى إحياء الولائم على ضفاف الفرات، كما يعشقون التبختر في أحياء المدينة بكامل سلاحهم وسياراتهم المفيمة، فهم لا يختلفون عن سلفهم، السرقة والتجسس والسلبطة و الإبتزاز والتعدي وإهانة الناس بلا سبب، ملاحقة الناس في لقمة عيشهم والحواجز وتجنيد المخبرين، وملاحقة الناشطين، ولا يجد الدواعش حرجا في نشر الصور لولائمهم التي يظهر فيها الإسراف والترف الشديدين، بالإضافة لبثهم صورا وفيديوهات عن نشاطاتهم الرياضية التي تبدو مبتذلة ومصطنعة، فتثير في النفس الضحك والبكاء في آن واحد.
النساء والأطفال في ظل داعش
من النادر أن تلمح النساء في الشارع، فهنَّ المستهدفات في إطار بناء دولة الجنون والوهم، جنَّدت لأجلهن داعش مجموعة تحت مسمى “كتيبة الخنساء”، لتلاحقهن وتتأكدن من أنَّ لباسهن مطابق لمقاييس “داعش”، والمقاييس تابعة لأهواء عناصرها, فتحول الموضوع إلى لعبة ظالمة وقاسية واستفزاز جديد، فشروط اللباس غير محددة وغير واضحة، بل مرتبطة بعناصر داعش وجواسيسهم، ولاتزال قصة مدرستي “حميدة الطاهر و عبد الهادي كاظم” حاضرة في أحاديث الأهالي، حيث داهمتهما الداعشيات واعتقلت 10 فتيات، تتراوح أعمارهن بين الـ 15و17 سنة “المرحلة الثانوية، واقتادتهن خارج المدرستين وتم جلدهن تحت بند مخالفة أوامر داعش في شكل اللباس.
ولكل حربٍ مآسيها وضحاياها، لكن يبقى الأطفال هم الذين يدفعون دائما الفاتورة الأغلى، وأطفال الرقة في ظل سيطرة داعش على مدينتهم يعانون الويلات، ولهم معاناة من نوع آخر، حيث لا يوجد أي نوع من أنواع التعليم في المدينة، الكثير من الأطفال توجب عليهم العمل لتأمين لقمة العيش لعائلاتهم، بينما يعمل الطفل في الرقة 12 ساعة لتأمين مبلغ زهيد لعائلته ليسد رمقهم، أما مجندي داعش القادمين من كل أنحاء العالم، فهم يتمتعون برواتب وبيوت لأسرهم، وهناك معاناة من نوع آخر بسبب مخلفات المعارك والقذائف، فالكثير من أطفال الرقة انفجرت بهم هذه المخلفات مسببة تشوهات لهم، وبتر في الأطراف، إنَّ داعش تأخذ الكثير من أطفال الرقة لتجنيدهم في معسكرات خاصة دون 16، ومنها المعسكر الشرعي للأشبال في مدينة الطبقة، والكثير من الاطفال تؤخذ من دون علم الأهالي وعند مراجعتهم يقولون أبنائكم ليسوا عندنا.
الوضع الاقتصادي لأهالي الرقة
عانى الموظفون أكثر مما عاناه غيرهم، حيث أنهم مضطرين إلى السفر خارج الرقة لأجل قبض الرواتب، وأحيانا يذهبون إلى دمشق، متحملين خطر المرور عبر الحواجز والتكلفة العالية للسفر، لتكتمل المأساة برفض تسليمهم الراتب، وتتكرر هذه القصة كل شهر طالما أن لا أحد يعلم إن كان ثمة راتب أم لا، كما قامت داعش بفرض الإتاوات على المحال التجارية 3500 ل.س، وبحال عدم الدفع يتم معاقبة صاحب المحل بدءا بإغلاقه ثلاثة أيام وصولا للحجز على المحل، كما منعوا تواجد البسطات في الشوارع، وهي مصدر رزق أساسي لعائلات كثيرة، فإذا كان لديك بسطة يجب عليك أن تحجز مكان في سوق خاص لدى داعش، وتدفع كل شهر مبلغ من المال لهم مقابل سماح داعش لك بالعمل بتجارتك، كما طالبت داعش الكثير من أهالي الرقة بإخلاء بيوتهم، في مناطق مساكن الشهداء ومساكن الضباط، بدعوى أن “المجندين الأجانب” القادمين من خلف الحدود أحق بالمنازل من أصحابها وأهلها.
يتجولون وعيونهم زائغة جائعة، لكنها في الوقت نفسه مسكونة بالخوف والفزع “في مشهد منسوخ من الذين كانوا يعتبرون كل سوري عدوا لهم”، لا يتورعون عن شيء حيث لا قيم تحكمهم، يتمسكون بسلاحهم يشهرونه بلا سبب واضح في وجه الناس، يتمسكون ببضع كلمات حفظوها لا يدركون معناها، يرددونها بين الحين والآخر عن شريعة وتطبيق، حدود و تكفير، القتل، تلمع عيونهم حين يتحدثون عن القتل، يشعرون بالقوة تسري في جسدهم من جديد، يدركون أن سلاحهم الأمضى هو سمعتهم بجرأتهم اللامتناهية عليه، التفنن به، ولزيادة قتامة الصورة فهم يرحبون بما يروج عن هوسهم بالتمثيل بالجثث ولا يخفون ولعهم بذلك.
\معركة تحرير الرقة من تنظيم “داعش”, ستؤدي في النهاية إلى إسقاط “الخلافة”, التي سعى لها التنظيم، وسط هواجس تركية من تداعيات المعركة على أمنها، خصوصاً أنَّ اللاعب الأكبر على أرض الرقة هي “قوات سورية الديمقراطية” التي تشكّل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي.
محي الدين المحيمد