إن مدى قدرة الأفراد على الاستهلاك وإشباع احتياجاتهم يمنح تقييماً لمستوى معيشتهم ورفاهيتهم وهو ما يطلق عليه القدرة الشرائية.
وفقاً لمعطيات القدرة الشرائية هذه يحدد البنك الدولي خط الفقر في العالم، معتمداً على معرفة خط الفقر الوطني لأفقر البلدان، والتي تعكسها بطبيعة الحال أسعار صرف عملاتها قياساً إلى عملة عالمية واحدة.
منذ عام 1985 والذي حدد خلاله البنك الدولي خط الفقر بدولار واحد يومياً للفرد، ارتفعت الأسعار وازدادت خطوط الفقر الوطنية بمرور الوقت، وانتشرت معدلات جديدة تعادل القوة الشرائية الجديدة، مما اضطر البنك الدولي إلى تعديل خط الفقر مراراً.
ارتفع خط الفقر الدولي إلى 1,08 دولار يومياً للفرد، في معدلات عام 1993 ووصل إلى 1,25 دولاراً في معدلات 2005 حتى بلغ 1,90 دولاراً للفرد في اليوم عام 2011.
مع إصدار عام 2020 لمجموعة جديدة من معدلات القوة الشرائية استناداً إلى الأسعار التي جمعها برنامج المقارنات الدولية في 2017، أصبح البنك الدولي مضطراً مرة أخرى على تعديل خط الفقر ليصبح 2.15 دولار للفرد في اليوم، ويعني هذا أن مَن يعيش على أقل من هذا المبلغ يوميا يُعد فقيراً فقراً مدقعاً.
تختلف وتتباين بشدة معدلات الفقر بين دول العالم، فالمجاعة مثلاً تأتي على رأس قائمة أزمات بعض تلك البلدان، ومما لاشك فيه أن الأمر عائد إلى خلل في النظم الاقتصادية في الدولة إلى جانب الارتباط بالخلل في باقي القطاعات ناهيك عن التأثر بنظم الإدارة والإرشاد بباقي الدول في ظل نظام اقتصادي رأسمالي يسود العالم.
وبالحديث عن ارتفاع معدلات الفقر وأكثر الحلول الاقتصادية نجاعة لتداركها، إليكم قصة بنك غرامين الشهيرة في بنغلادش لمديرها السابق أستاذ الاقتصاد في جامعة شيتاغونج، محمد يونس والتي تعطي نموذجاً مثالياً جيداً عن التعاونيات التي سنخوض في الحديث عن ماهيتها لاحقاً.
قبل فكرة البنك جاءت ليونس فكرة تمهيدية تندرج ضمن نموذج التعاونية الزراعية..
في عام 1974 وعندما كانت بنغلادش تعاني من المجاعة، فكر استاذ الاقتصاد أن يستغل مساحات الأراضي الزراعية الواسعة لصالح فقراء إحدى قرى بلاده والذين يتقنون العمل في الزراعة لكنهم لا يجدون سبيلاً للعمل فيها.
فقام بإنشاء تعاونيات زراعية مولها بنفسه يعمل فيها أهل القرية وطلابه لمساعدتهم في تطبيق تكنولوجيا الري في زراعة الأرز عالي الغلة.
في النهاية بقي عدد لا بأس به من سكان هذه القرية لم يستفيدوا من التعاونيات الزراعية وكانوا يلجأون للاقتراض من وسطاء محليين بسعر فائدة يبلغ 10% يومياً أو أسبوعياً، من أجل تسيير أعمالهم وهو سعر فائدة أغرق الكثيرين بالفقر.
خطرت ليونس تطبيق فكرة ائتمان يعتاش منها هؤلاء القرويين لتنقذهم من البأس فقرر إقراضهم من ماله الخاص دون فوائد.
في عام 1976ذهب إلى أحد أفرع البنوك الحكومية في منطقته وعرض عليهم فكرة القروض الصغيرة للفقراء، بضمان شخصي منه لاسترداد تلك القروض.
وبحسب يونس فإن الفقراء يعرفون جيداً أن هذا الائتمان هو فرصتهم الوحيدة للخروج من الفقر، وأن تخلفهم عن سداد قرض واحد قد يعني فقدانهم فرصة النجاة من هذا المستنقع، لذا وضع نفسه كفيلاً لسداد القروض في حالة التخلف لأنه عرف معاناتهم.
فيما بعد وكسابقة من نوعها قرر يونس تأسيس بنك يقوم على مبدأ إقراض الفقراء لا لكبار المستثمرين مشكلاً بذلك نموذجاً للتعاونيات يندرج ضمن التعاونية التمويلية.
كانت القروض الممنوحة من بنك “جرامين” تستمر لسنة واحدة، وكان على المقترضين سداد جزء ضئيل من القرض يومياً، وفي وقت لاحق، أصبحت المدفوعات أسبوعية كما طلب “يونس” من المقرضين تجميع مدخراتهم لدى البنك، ليمكنه بعد ذلك إقراضها لآخرين، وبحلول عام 1998 تم ادخار 100 مليون دولار بهذه الطريقة.
المثير للملاحظة في مشروعه أن “يونس” اعتمد أكثر على إقراض المال بشكل حصري تقريباً للنساء، لأنه وجد أن توسيع نطاق الائتمان لهن يخلق المزيد من التغيير بسرعة أكبر مقارنة مع إقراض المال للرجال.
أصبح هذا البنك الممول لقرية صغيرة عام 1976 بقرض يبلغ 27 دولاراً أحد أهم برامج مناهضة الفقر في العالم إذ يضم حالياً أكثر من 2500 فرع، ويعمل لديه حوالي 26 ألف موظف، وأقرض البنك مليارات الدولارات للملايين من الفقراء بمعدل استرداد قدره 98%.
في عام 2006حصل يونس على جائزة نوبل للسلام بالمناصفة مع بنك غرامين لعمله في تعزيز التنمية الاقتصادية.
وفقاً لتجارب يونس محمد في التعاونيات الزراعية والتمويلية نفهم إذاً أن فكرة التعاونية تعتمد على سد احتياجات مجموعة من الناس يشتركون في تخصص واحد وفق مبدأ الملكية الجماعية للإنتاج بعيداً عن الانحياز في الإدارة وسيادة الديمقراطية في تلك المشاريع لدى اتخاذ القرار.
هذه الأفكار البسيطة في آليتها والتي تعتمد بنية أخلاقية تحبذ العمل الجماعي ومبدأ الإنسان قبل الربح تشكل بمجموعها ما يعرف في الاقتصاد بالتعاونيات.
الأمم المتحدة تشجع في برامجها مشاريع التعاونيات التي بإمكانها أن تتطور وتتسع لتشمل عدداً أكبر من المتعاونين وأن تتنوع لتشمل قطاعات اقتصادية مختلفة وفق خطط تدرسها الدول للوصول إلى التنمية الاقتصادية المستدامة التي تحقق رفع سوية المجتمع الاقتصادية وتحد من تفشي الفقر، لذا تحتفل الأمم المتحدة باليوم العالمي للتعاونيات في أول سبت من شهر تموز يوليو من كل عام.
في عام 2014 أصدرت منظمة العمل الدولية دليل معلوماتها للتوصية رقم 193 المعنون بـ”تعزيز التعاونيات” وذلك بعد أن أثبتت المشاريع التعاونية قدرتها على الصمود خلال أزمة عام 2008 المصرفية والتي ترتب عنها كساد كامل وارتفاع معدلات البطالة إلى أرقام قياسية.
على عكس المشاريع الخاصة أو المشاريع الحكومية حيث يحتكم نهج العمل بأوامر فوقية من السلطات والتي تسعى إلى غاية واحدة هي العمل من أجل تحقيق الربح، تعمل التعاونيات بدافع اشباع الاحتياجات التي تتنوع بين حاجة المستهلك للسلعة أو الخدمة وحاجة المنتج الى تشغيل قوة عمله ومدخراته المحدودة وهو أمر يحتم على المتعاونين ترشيد استخدام الموارد وفق مبدأ اشباع احتياجات أكثر بموارد أقل، وهو عينه ما تصبو إليه أهداف التنمية المستدامة.
فضلاً عما سبق ذكره فإن نهج التعاونيات يتميز بإمكانية تيسيرها أينما تواجدت التجمعات البشرية وأينما تباعدت ومهما كانت أعدادها أو البيئة التي تعيش فيها وهو أمر تعجز عن أدائه المشاريع الحكومية إذ يقف حائل التكلفة المالية العالية وراء إحباط جدوى مشروع في منطقة بعيدة أو قليلة السكان، ولا يقبل عليه القطاع الخاص حينما تبين دراسات التكلفة الربحية عدم جدوى هذا المشروع، وهنا يكون النهج التعاوني أيضاً الأنسب لتحقيق تنمية متوازنة إقليمياً.
في الختام من الضرورة التذكير أن أول من أطلق فكرة التعاونيات هو الإنكليزي روبرت أوين الملقب بأبو التعاونية والذي لاقت فكرته استحساناً وتفاعلاً فيما بعد، مما أدى إلى انتشار الجمعيات التعاونية في معظم دول العالم لتقديم الكثير من الخدمات للناس.
وشهدت إنكلترا إنشاء أول جمعية تعاونية عام 1844من قبل مجموعة مؤلفة من 28 حرفياً من العاملين في مصانع القطن بشمال البلاد.